من إذلال العلم أن تناظر كلّ من ناظرك ، و تقاول كل من قاولك " .
هذه آثارٌ في الباب رواها الإمام الدّارمي رحمه الله في مقدّمة السّنن :
فعن كثير بن مرّة قال : لا تحدّث الباطلَ الحكماءَ فيمقوتك ، و لا تحدّث الحكمة السّفهاء فيكذّبوك ، و لا تمنع العلم أهلَه فتأثم ، و لا تضعه في غير أهله فتُجَهَّلَ ، إنّ عليك في علمك حقًّا كما أنّ عليك في مالك حقًّا .
و عن حجّاج الأسود عن وهب بن منبّه قال : كان أهل العلم فيما مضى يضنّون بعلمهم عن أهل الدّنيا ، فيرغب أهل الدّنيا في علمهم ، فيبذلون لهم دنياهم ، و إنّ أهل العلم اليوم بذلوا علمهم لأهل الدّنيا ، فزهد أهل الدّنيا في علمهم ، فضنّوا عليهم بدنياهم.
و ما أحلى هذا للمتدبّرين ، و هو و إن كان قيل في ذمّ طلب التّلميذ إعادة الحديث من شيخه احتراماً للشّيخ و توقيراً له و طلباً لراحته ، إلاّ أنّه يصلح في أن ينزّل على ما نحن بصدده ؛ فعن أيّوب قال : حدّث سعيد بن جبير يوماً بحديث فقمتُ إليه فاستعدتُه ، فقال لي : ما كلّ ساعة أُحلبُ فأُشربُ !! .
و هذا أثرٌ صريح في الباب عن الإمام الشافعي رحمه الله ذكره البيهقي في مناقبه ( 2/151 ) (16) : " من إذلال العلم أن تناظر كلّ من ناظرك ، و تقاول كل من قاولك " .
قال ابن وهبٍ سمعت مالكاً يقول : " ذلٌّ و إهانةٌ للعلم ، إذا تكلّم الرّجل بالعلم عند من لا يُطيعه " (17) .
و قال ابن شبرمة : " إنّ من المسائل مسائل لا يجمل بالسّائل أن يسأل عنها ، و لا بالمسؤول أن يجيب فيها " (18) .
و قال مالكٌ : " إنّ من إذالة العالم أن يجيب كلّ من كلَّمه ، أو يجيبَ كلّ من سأله " (19) .
عن محمّد بن قدامة قال : " سمعتُ أبا أسامة يقول : إنّي لأغار على الحديث كما يُغار على الجارية الحسناء " (20) .
و عن حمدان بن الأصبهاني قال : كنتُ عند شَريكٍ فأتاه بعضُ ولدِ المهدي ، فاستند إلى الحائط ، و سأله عن حديث ، فلم يلتفت إليه ، فأعاد عليه ، فلم يلتفت إليه ، فقال : كأنّك تستخفّ بأولاد الخلافة ؟ قال : لا و لكنَّ العلمَ أزينُ عند أهله من أن يضيِّعوه ، قال فجثا على ركبتيه ثمّ سأله ، فقال شريك : هكذا يُطلب العلم " (21) .
و قال يحيى بنُ أكثم : " قال لي المأمونُ : مَن تركتَ بالبصرة ؟ فوصفتُ له مشايخَ منهم سُليمانُ ابنُ حرب ، و قلتُ : هو ثقةٌ حافظٌ للحديث ، عاقلٌ ، في نهاية السِّترِ والصِّيانة ، فأمرني بحملهِ إليه ، فكتبتُ إليه في ذلك ، فقدِمَ ، فاتَّفقَ أنّي أدخلتُه إليه ، و في المجلسِ ابنُ أبي دُؤاد ، و ثُمَامَةُ ، و أشبـاهٌ لهما ، فكرهتُ أن يدخُلَ مثلُه بحضرتِهم ، فلمّا دَخَل ، سلَّم ، فأجابه الـمأمونُ ، و رفعَ مـجلِسَهُ ، ودعا له سُليمانُ بالعزِّ والتّوفيق ، فقال ابنُ أبي دُؤاد : يا أميرَ المؤمنين ، نسألُ الشّيخ عن مسألةٍ ؟ فنظر المأمونُ إليه نظرَ تخييرٍ له ، فقال سُليمانُ : يا أميرَ الـمؤمنين ، حدّثنا حَمّادُ بنُ زيد قال : قال رجلٌ لابنِ شُبْرُمة: أسألُك ؟ قال: " إن كانت مسألَتُكَ لا تُضحِكُ الجليس ، و لا تُزرِي بـالمسؤولِ ، فَسَلْ " . و حدَّثنا وُهيبٌ قال : قال إِياسُ بنُ مُعاوية : " مِن المسائلِ ما لا ينبغي للسّائلِ أن يَسأَلَ عنها ، و لا للمجيب أن يُجِيب فيها " . فإن كانت مسألتُه من غيرِ هذا ، فليَسْأَل ، و إن كانت من هذا فليُمْسِك . قال : فهابُوه ، فما نطقَ أحدٌ منهم حتّى قام ، و ولاّه قضاءَ مكَّة ، فخرج إلـيها " (22) .
قال الشّيخ زيدٌ المدخليّ حفظه الله :
" العلمُ لايجوز أن يُكتمَ عن طالبه ، و إنّما يكتمُ العلم عمّن لا يستحقّه و ليس له بأهلٍ ، كمن يستهزؤون بالدّين ، و أحكام الدّين ، هؤلاء لو كُتم العلم عنهم ، لا إثم في ذلك " (23).
قيل إنّ زيادة الله الأمير بعَثَََ يسألُ سُحْنُوناً عن مسألةٍ ، فلم يُجِبْهُ ، فقال له محمّد بن عُبدوس : أُخْرُجْ من بلد القوم ؛ أمسِ ترجعُ عن الصّلاة خلف قاضيهم ، و اليوم لا تجيبُهم ؟! قال: أَفأجيبُ من يريد أن يَتَفَكَّه ؟ يريد أن يأخذ قولي و قول غيري ، و لو كان شيئًا يقصِدُ به الدّين لأجبتُه (24) .
___________________________
(16) : نقلاً عن : " النّبذ في آداب طلب العلم " ص 193 ، و قد أفادني به أحد إخواني جزاه الله خيرا .
(17) : الفقيه و المتفقّه للخطيب البغدادي ( 2/53 رقم : 679 ) .
(18) : المصدر السّابق ( 2/417 رقم : 1196 ) .
(19) : نفس المصدر ( 2/418 لرقم : 1197 ) . و الإذالة : الإهانة ، وزناً و معنًى .
(20) الجامع في أخلاق الرّاوي و آداب السّامع 1/298 .
(21) المصدر نفسه 1/312 .
(22) سير أعلام النّبلاء 9/81 .
(23) شرح كتاب العلم من صحيح البخاري : الشريط الأول ، الدقيقة 16 .
(24) السّير 12/63 .
منقول من شبكة النقية السلفية