التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وصفـة السعـادة الحقيقيـة

وصفـة السعـادة الحقيقيـة

فضيلة الشيخ الدكتور:
سليمان بن سليم الله الرحيلي
حفظه الله تعالى
الملف الصوتي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها الإخوة.. أيها الأحبة؛ ربع ساعة إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ نحتسبها عند الله عَزَ وَجَل، ونرجو الله عَز وَجَل أن نكتسب بها رحمةً من ربنا، وسكينةً من ربنا، وذكرًا في الملأ الأعلى.
أيها الأحبة؛ أحب أن أتذاكر معكم أمرا يطلبه الناس، ويشكو كثير من الناس اليوم فقده، هو أمرٌ يطلبه كل أحد؛ يطلبه الصغير ويطلبه الكبير، يطلبه الذكر وتطلبه الأنثى، ذلكم الأمر هو: السعادة.
وكثير من الناس اليوم يقولون: إنا لا نشعر بالسعادة..

وقد تنوعت طرق الناس في طلب السعادة؛
فمن الناس من ظن أن السعادة في تكثير الأموال، فأصبح يسعى في تكثير الأموال ولا يبالي من أي طريق كانت، وألهته عن ذكر الله، فإذا تعارض طلب المال مع الصلاة ناداه شيطانه: حي على المال، فلا يحقق سعادة، وإنما يكون حاله كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) ﴾ [الكوثر]، فطلبَ التكثير بالأموال.
ومن الناس من طلب التكثير بالأولاد، وألهاه ذلك عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
و من الناس من ظن أن السعادة في الأسفار، فيظل طول عمره ينتقل من بلد إلى بلد لا تهنأ به زوجة ولا ولد، يبحث عن السعادة فلا يُحصّلها.
و من الناس من أيِس من السعادة، وقال: إن السعادة وهم منشود لا حقيقة له.

وما درى أولئك الحيارى أن السعادة موجودة.. والله إنها موجودة!

إن السعادة في قلب تقيّ وعمل صالح زكيّ، من وفقه الله عَزَّ وَجَلَّ للتقوى؛ فرزقه الله قلبًا تقيًّا يقف به عند محارم الله فلا ينتهكها، ويقف به عند فرائض الله فلا يفرّط فيها، ورزقه عملا صالحا فقد رزقه السعادة.

وذلك أن السعادة -يا إخوة- هي: اطمئنان القلب، و"القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء" (1)، فالسعادة
هبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يهبها لعباده الصالحين، والعبد المؤمن يعيش حياته في سعادة. هل يعني هذا أنه لا يُبتلى؟! لا، والله!
يُبتلى على قدر إيمانه، "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه" (2)
، ولكن يكون ذلك خيرا له فيكون سعيدا، كما قال النبي صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن" (3)، لا إله إلا الله.. كيف تعيش في الحياة؟ إما في سراء وإما في ضراء، والمؤمن كل ذلك خير له، فيكون في سعادة.
يسعد المؤمن في الدنيا لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يرزقه طمأنينة القلب والقناعة بما يؤتى، فلا يشتغل بما لم يأته، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "من كانت الدنيا همه فرَّق الله عليه أمر، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة" (4) لا إله إلا الله.. قارنوا بين الحالين -يا إخوة-:
"من كانت الدنيا همه ونيته فرَّق الله عليه أمره"؛ فتشعبت به الأمور في قلبه، ما يرتاح إذا جاء ينام؛ إذا جاء على جنبه الأيمن تذكر كذا، وإذا جاء إلى جنبه الأيسر تذكر كذا، ما يرتاح..
"وجعل الله فقره بين عينيه"؛ كلما نظر يرى فقرا، لو امتلأت الخزانة يرى فقرا، فلا يسعد، لأنه يلهث، لأنه يحس أنه فقير، ومع ذلك لا يأتيه من الدنيا إلا ما كتب الله له.
أما من كانت الآخرة نيته -المتقي العبد الصالح- "جمع الله عليه أمره"؛ فلا يغوص في الهموم.
"وجعل غناه في قلبه"
؛ فهو مطمئن القلب بما رزقه الله؛ إن رزقه الله القليل قال: الحمد لله، والله إني أحسن من غيري، وإن رزقه الكثير قال: الحمد لله.
"وأتته الدنيا وهي راغمة"
؛ فيعيش في الدنيا سعيدا.

ثم المؤمن الذي يعمر حياته بتقوى الله والعمل الصالح يكون سعيدا عندما يحين الأجل الذي لابد منه؛ فيحين الموت، فتحضره الملائكة، فتناديه: أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروحٍ وريحان وربٍّ غير غضبان، وهي في النزع تُنادَى بهذا، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرج، فإذا خرجت أخذها ملك الموت فكفّنها بكفن من الجنة وحنّطها بحنوط من الجنة، ويُعرج بها إلى السماء على أطيب ريح، وما من ملك من الملائكة إلا يسألون الله أن يُعرج بها من جهتهم من طيبها، فيُستفتح لها في السماء الدنيا، فيقال: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقال: فلان بن فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة ويُفتح لها حتى تبلغ السماء السابعة، ثم يقضي الله برجوعها إلى الدنيا..سبحان الله! حتى في هذا الموقف الذي عمر حياته بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى يكون هذا حاله.

ثم يسعد ويتنعم في القبر عندما يسمع المنادي ينادي: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة -في القبر.. يا إخوان!- وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره ويأتيه من روحها وريحانها، ويُعرض عليه مقعده من الجنة بالغداة والعشي -وهو في قبره-، فتعظم سعادته.
مع هذه الحال والنعيم يقول: ربِّ أقم الساعة.. ربِّ أقم الساعة.. لأنه يعلم أن ما بعدها أعظم.
وإذا لقي الله كان في الفريق السعيد، فإن الناس عند لقاء الله منهم شقي ومنهم سعيد، فيكون في الفريق السعيد الذي ينقلب إلى أهله مسرورا، ثم يكون إلى الجنة، الجنة التي هي دار السعادة..

آخر الناس دخولا للجنة وأقل الناس نعيما في الجنة، تدرون ما نعيمه؟! نعيمه أن يعطيه الله مثل الدنيا منذ أن خلقها إلى أن أفناها..تصوروا! نعيم الدنيا، النعيم الذي جعله الله في الدنيا منذ أن خلقها إلى أن أفناها وعشرة أضعافه، هذا أعلى الناس نعيما في الجنة؟ لا، والله! هذا أقلهم!
وقد أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن قصة في أمر عجيب، وذلك أن الله يعطيه نوره في إبهام قدمه يوم القيامة، فيطفئ حينا ويضيء حينا فيأتي الصراط يحبو تعلق يد وتخر يد، تعلق رجل وتخر رجل حتى ينجو، فإذا نجا نظر إلى النار وما فيها فقال: الحمد لله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدا من العالمين حيث نجاني من هذه، فيؤخذ إلى غدير فيُغسل فيه فيعود له ريح أهل الجنة ولون أهل الجنة، فينظر إلى الجنة من خلل الباب، فيرى الجنة فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ: أتسأل الجنة وقد أنجيتك من النار؟ الله يقول له أنت الآن تقول لقد أُعطيتُ شيئا لم يعطه أحد لأن الله نجاني من النار، الآن تسأل الجنة؟ قال: رب اجعل بيني وبينها حجابا لا أسمع حسيسها -يعني بيني وبين النار التي خلفي-، فيقال : ادخل الجنة! فيدخل الجنة فيعترضه دار، فإذا رآه خرَّ ساجدا، فيقال: ماذا؟ فيقول: قد رأيت ربي، فيقال: هذا بيت من بيوتك في الجنة، فينطلق فيرى رجلا فيتهيأ لتعظيمه، فيقال: ماذا؟ فيقول: إنك ملك من ملائكة ربي، فيقول: أنا عبد من عبيدك، ثم يعطيه الله عَزَّ وَجَل مثل الدنيا منذ أن خلقها إلى أن أفناها وعشرة أضعافها.. دار النعيم.. دار السعادة..

والجنة -يا إخوة- لا تُنال بالعمل، لأنه مهما عملنا فالجنة أعظم؛ ولكنها تنال بفضل الله، "ولن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" (5).
ولكن العمل -يا أحبة- هو سبب نيل فضل الله، سبب نيل فضل الله بالجنة هو العمل، وبمقدار ما تعمل يُرجى لك الرفعة.
وجاء في الحديث أن الله عَزَّ وَجَلَّ إذا أراد بعبد منزلة في الجنة فلم يبلغها بعمله قال لملائكته: صبوا عليه البلاء صبا، ثم صبره عليه" (6)، فيُبتلى ويصبر فيزداد منزلة في الجنة.

الجنة نعيمها لا يبلى.. فلا موت، وتكمل السعادة فيها برؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فالسعادة الحقيقة في الدنيا وفي الآخرة هي بتقوى الله والعمل الصالح.

يا عبد الله! يا عبد الله! هَب أنك عملت ما عملت في الدنيا من الأمور التي لا يحبها الله، والله إن السعادة التي تظن أنك تجدها في الدنيا لا تساوي غمسة في جهنم.
وهب أنك كنت في ضيق في عمل الصالحات في الدنيا، والله إن غمسة في الجنة تنسيك كل هذا.
ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "يؤتى يوم القيامة بأبأس رجل كان في الدنيا، من أهل الجنة -أبأس رجل، ما في أحد أبأس منه- فيُغمس غمسة في الجنة، فيقال: هل رأيتَ بؤسا قط ؟ فيقول: لا، والله ما رأيتُ بؤسا قط" (7).

يا عبد الله! يا مسلم! هب جدلا أنك هذا الرجل، أبأس إنسان في الدنيا ولكنك على عمل صالح، والله إن غمسة في الجنة فقط -فضلا عن دخول الجنة- تنسيك كل هذا.
و يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "و يوتى بأنعم رجل كان في الدنيا من أهل النار فيُغمس غمسة في جهنم، فيقال: هل رأيتَ نعيما قط ؟ فيقول: لا، ما رأيتُ نعيما قط" (7).

هب أنك أنعم رجل مع معصية الله أو الكفر، أنعم رجل في الدنيا، ما في أحد أنعم منه قط ولا مر التاريخ عليه، لو أن العاصي -والعياذ بالله، وحاشاكم أن تكونوا مثله- جيء به يوم القيامة فغُمس غمسة في جهنم لقال ما رأيت نعيما قط.

ولذلك -يا إخوة- كيف نغفل عن الصالحات؟ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخبرنا بهذا، ونحن والله نصدقه، كيف نكدح في الدنيا ونعمل المحرمات ونترك الواجبات ونغفل عن هذه القضايا المسَلَّمات؟

يا عبد الله! إن أردت السعادة في نفسك، إن أردت السعادة في بيتك، إن أردت طرد المشاكل من بيتك، إن أردت الصلاح لأبنائك، إن أردت الخير لبلدك، إن أردت أن تعيش طيبا وتموت طيبا وتُبعث طيبا فعليك بالطيب الموجود اليوم، وهو: العمل الصالح، احرص عليه وتطيّب به، فإنه والله من أعظم نعم الله عَزَّ وَجَلَّ عليك.

الباب عظيم، ولكني وعدت أن آخذ ربع ساعة؛ وهي كلماتٌ طيبة تُذكر للطيبين، ومن رأى أمثالكم ساغ له أن يحدثهم بمثل هذا.

أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يُطيّب حياتنا بالعمل الصالح وأن يجعلنا من عباده الطيبين، وأن يبعد عنا وعن بلادنا الشر والأشرار، وأن يجعل مسيرنا إلى الله من خير إلى خير حتى نستقر في مستقر رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________
(1) صحيح مسلم كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (2654)
(2) سنن الترمذي باب ما جاء في الصبر على البلاء ( 2398 )
(3) صحيح مسلم باب المؤمن أمره كله خير (2999)
(4) رواه الترمذي ( 2389 ) وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 6510 )
(5) صحيح مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816)،
صحيح البخاري كتاب الرقاق باب القصد والمداومة على العمل ( 6098 )
(6) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/294) والألباني في السلسلة الضعيفة (4994) ( 4993 )
(7) صحيح مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة (2807)

                      المصدر شبكة الإمام الآجري

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

:: رسالة الكفر بالطاغوت :: للشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تأمل رحمك الله وجعلك الله من أهل التوحيد الخلص

ثمار التوحيد في ضوء الكتاب والسنة

اقوال وحكم...