كما بدأنا أول خلق نعيده.

             شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم     للمنذري(30)إعـادةُ الخَلـق


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.  والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.  والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله عز وجل: {كما بدأنا أول خلق نعيده...} الآية
2151. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ [ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي ؟! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قَالَ فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ «.
الشرح: هذا الحديث من مختصر مسلم في سورة الأنبياء، والحديث رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة. وبوّب عليه النووي: باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
وبوب عليه المنذري: باب قوله عز وجل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء: 104).
       وسميت سورة الأنبياء بهذا الاسم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها جملةً مباركةً من أسماء أنبيائه ورسله، وقصصهم وأحوالهم مع الله تعالى.
والأنبياء جمع نبي، وهو من نُبئ، أي: جاءه النبأ من السماء بواسطة الوحي.
 والأنبياء عددهم وفير وكثير، كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الإمام أحمد وصححه ابن حبان في صحيحه: أن النبي[ سئل عن الأنبياء، كم عددهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «مائة وأربعة وعشرون ألفا، الرسلُ منهم ثلاثمئة وبضعة عشر».
 وهم منهم من ذكر اسمه في القرآن، ومنهم من لم يذكر اسمه، كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164).
      وحديث الباب هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الصحابي المشهور بالتفسير، وإنما قلنا: رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباس منسوب إلى أبيه وهو العباس بن عبد المطلب عم النبي [، فإذا ذُكر ابن عباس يترضّى عنه وعن أبيه، لأنه وأبوه صحابيان، كما يقال عن ابن عمر: رضي الله عنهما، وجابر بن عبدالله؛ لأنهم وآباؤهم صحابه رضي الله عنهم .
وللحافظ ابن قطلوبغا رسالة باسم: من روى عن أبيه عن جده، مطبوعة.
       قوله: « قام فينا رسول الله [ بموعظة «، كان من هدي النبي [ أن يعظ أصحابه ويذكرهم بالله عز وجل، ويخوفهم بربّهم، ويرغبهم فيما عنده، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتخوّل أصحابه بالموعظة، يعني: أنه يتعاهدهم أحيانا ولا يكون بصفة الاستمرار، وإنما يجعله متقطعا ومتفرقا، كسقي الزرع مثلا، وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي[ كان يعظهم كل خميس.
      وهذا لأجل ألا يمل الناس من المواعظ؛ فإن كثرة الوعظ تؤدي بالإنسان إلى الملل والسآمة، وقد تؤدي بالإنسان لليأس والقنوط من رحمة الله بسبب كثرة الخوف، فكثرة الخوف تضر المؤمن العامل.
       قوله[: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً» أي: إن الناس يحشرون يوم القيامة على هذه الصورة، حفاة أي: غير منتعلين، عراة أي: غير مكتسين، غرلاً أي: غير مختونين. أي: إنهم يحشرون كما خُلقوا، وكما خرجوا من بطون أمهاتهم إلى الأرض، فالإنسان إذا خرج من بطن أمه يخرج حافياً عاريا أقلف، والأقلف هو الذي لم يختتن بعد، ويقال له: الأغرل أو الأرغل والأغلف، كل هذه لغات صحيحة في الذي لم يختتن، أي: لم تقطع عنه الجلدة التي تغطي حشفة الذكر.
  وهذا يعني أن الإنسان يرجع يوم القيامة بكل أعضائه، ولو فقد شيئا منها في الدنيا، أي لو قطع منه شيء، فإنه يأتي يوم القيامة كما خلقه الله، وكما بدأه الله سبحانه.
       ثم قرأ [: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي: إن إعادتنا للخلق هي مثل ابتدائنا لخلقهم، فنحن قادريون على أن نعيد الإنسان كما خلقناه بعد أن أفنيناه، بعد فنائه وصيرورته ترابا، فإننا قادرون على أن نعيده كما بدأناه في بطن أمه.
      وقوله: {وَعْداً عَلَيْنَا} هذا مما أخذه الله سبحانه وتعالى على نفسه، والله سبحانه يوجب على نفسه ما يشاء، وهو تعالى لا يخلف الميعاد؛ ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)، يعني إنا كنا قادرين على ذلك، على أن ننجز ما وعدنا، وهذا لتمام قدرته وكمال غناه سبحانه. وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يخلف الوعد ؟ ومتى يكون ذلك ؟ إذا عجز عن الوفاء به فالإنسان إذا كان قادرا أنجز وعده، وقد يكون قادرا لكن يكون هناك من هو أقوى منه وأقدر، فيمنعه من إنجاز الوعد فيخلف الوعد، لكن الله عز وجل قادر ولا أحد أقدر منه، وقوي ولا شيء أقوى منه سبحانه وتعالى، فلا شيء يمنعه من إنجاز وعده.
       وأيضا: فقد يعد الإنسان غيره بشيء، ولكن فقره يمنعه من الوفاء، فيخلف وعده، لكن الله سبحانه وتعالى الغني الحميد، فلا يمنعه فقر ولا حاجه ولا عوز أن ينجز وعده سبحانه وتعالى.
      فقوله سبحانه وتعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} أي: علينا إنجازه والوفاء به {إنا كنّا فاعلين} فلا يمنعنا شيء من إنجاز هذا الوعد الذي وعدنا به.
      وهذا كله تحقيق وبيان أن هذا الوعد محقق كائن لا شك فيه، وإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تستعدوا لهذا اليوم – يوم القيامة - الذي يعيدكم الله سبحانه وتعالى فيه إلى الحياة مرة أخرى، وقدموا لأنفسكم من الأقوال والأعمال الصالحة ما يكفي للخلاص من الأهوال، والنجاة من النار، كما قال عز وجل:  {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5).
       ثم قال عليه الصلاة والسلام: « ألا وانّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم « فأول الخلق يكسى يوم القيامة النبي إبراهيم [، ولماذا هو أول الخلق يكسى ؟ قيل: لأنه ألقي في النار عاريا، فجازاه الله سبحانه وتعالى بأن كساه قبل الخلائق. وقيل: إن هذه الأولية بالنسبة لما بعد نبينا محمد [؛ لأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة. وقيل: هو يكسى قبل النبي [ ولكن كسوة النبي [ أعلى من كسوته.
      وعلى كل حال فهذه منقبة لخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفضيلة من فضائله عليه السلام، وهو أبو الأنبياء، وإمام الدعاة إلى التوحيد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى إماما يقتدي به من جاء من بعده من النبيين والمؤمنين.
      ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنه سيُجاء برجالٍ من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال» فقوله سيجاء برجال من أمتي، يعني: يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال، وفي رواية البخاري: « سيؤخذ بهم إلى النار ذات الشمال «. وأصحاب الشمال هم أهل النار كما هو معلوم من القرآن الكريم.
 قوله: « فأقول يا رب أصحابي» وفي رواية للبخاري أيضا: «فأقول يا رب أصيحابي» بالتصغير للتقليل.
       قوله: «فيقال: إنك لا تَدري ما أحدثوا بعدك؟ « فهذا الحديث يبين فيه النبي [ أنه سيؤتى برجال من أمته فيؤخذون عنه، وكيف يعرف النبي [ أمته ؟ جاء في الحديث أنه يؤتى بهم يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فيعرفهم النبي[، لكن قوله: «سيؤخذ برجال من أمتي» يفيد التقليل كما لو قال: يجيء أقوام، وهذا يفيد التقليل كذلك، فهم قلة في هذه الأمة، والنبي [ عرفهم كما ذكرنا بالغرة والتحجيل.      
        فعندما ُيؤخذ بهم إلى النار يقول النبي [: « يا ربي أصحابي أو أصيحابي « لأنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بالسيما والعلامة.
      قوله: « فيقال إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» فمن المراد بهؤلاء الذي يؤخذ بهم إلى النار بعد أن عرفهم النبي [، المصطفى المختار ؟ فيه أقوال:
      فالقول الأول: أنهم المنافقون الذي كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي [، فيصلون ويأتون المساجد، وربما يحجون مع المسلمين ويخرجون للجهاد أحيانا، ولكنهم في الباطن منافقون - والعياذ بالله - فهؤلاء تأخذهم الملائكة من بين يدي النبي [، وتحجز بينهم وبين نبيهم وتجرهم إلى النار، فالنبي عليه الصلاة والسلام، يقول عندئذ: أمتي !! أو يقول: هؤلاء أصحابي، أي: منهم، فتقول له الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك!
        والقول الثاني: أن هؤلاء هم المرتدون بعد النبي [ ممن كانوا في البوادي، وغيرهم ممن ارتد بعد وفاة النبي [، وبدلوا بعده، فماتوا على ما أظهروا للنبي [ من إسلامهم، وبعضهم قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا أيضا يشهد له القرآن، كما قال الله عز وجل {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة: 101).
       والقول الثالث: أن هؤلاء هم أصحاب الكبائر وأصحاب المعاصي، الذي ماتوا على التوحيد، فإنه يوم القيامة يحال بينهم وبين النبي [.
        والقول الرابع: أن هؤلاء هم أصحاب البدع؛ لأن الملائكة تقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، والإحداث على نوعين: إحداث بمعنى إتيان الكبائر ، وإحداث بمعنى الابتداع، فإن كل محدثة بدعة، فيكون هؤلاء هم أصحاب الإحداث في الدين، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: كل من أحدث في الدين، فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر . قال: وكل هؤلاء يُخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنوا بهذا الخبر، والله أعلم.
فهؤلاء كلهم ممكن أن يكونوا معنيين بهذا الحديث.
      وقد استغل أهل البدع الحاقديون على الإسلام وغيرهم هذا الحديث، فحملوه على أصحاب النبي[؟! بل وعلى الأكابر منهم، كالخلفاء الثلاثة، واحتجوا به على ردة الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ حتى قالوا: لم يبق على الإسلام بعد النبي[ إلا ستة؟! وهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان وعمار؟؟  فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام، وأما البقية فكلهم ارتدوا ؟! والعياذ بالله، وهذا القول منكر عظيم، وجرأة عظيمة، وفيه تكذيبٌ لله سبحانه وتعالى في كتابه الذي يترضى فيه على أصحاب نبيه [ في أكثر من موضع، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 18) وقوله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...} (الفتح: 29)، وقوله: {والسّابقُون الأولون من المهاجرينَ والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة: 100).
      وغيرها من الآيات الواردة في هذا، والتي تثبت أن الحقيقة أن الصحابة المعروفين لم يرتد أحدٌ منهم بعد النبي [، بل لا يثبت أن صحابياً ارتد بعد النبي [، لكن الذين ارتدوا هم الجهال من العرب، والأعراب الذين كانوا خارج المدينة من القبائل الذين أسلموا، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، بل أسلموا ودخلوا في الإسلام، ولكن كان الإيمان ضعيفا في قلوبهم، فلما مات النبي [ رجعوا عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر الصديق، وردّ منهم من رد إلى الدّين.
       قوله « فأقول كما قال العبد الصالح: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 117)» والعبد الصالح قائل هذه المقالة هو نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عز وجل عنه ذلك في أواخر سورة المائدة، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام يقول الله له يوم القيامة: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} (المائدة: 116) فيقول: {سُبحانك ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بحقٍ} أي هذا القول المنكر، وهو ادعاء الألوهية، ثم يعتذر ويقول: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: شاهداً  ومراقبا لهم، وسميعا بصيرا بأقوالهم وأفعالهم {ما دمت فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} لما رفعتني عنهم {كنت أنت الرقيب عليهم}؛ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء رقيب، {وأنت على كل شيء شهيد}. ثم يقول عز وجل عنه {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118)  هذا القول يمكن أن يقال إنه على وجهه الاستعطاف، أي إن النبي[ يقول هذا القول استعطافا للخالق سبحانه وتعالى لعبيده، كما يُستعطف السيد لعبيده، ولهذا فلم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وإنما قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهو نوعٌ من الاسترحام والاستعطاف لهم. وقيل: هذا القول قاله على وجه التسليم والتفويض والانقياد له سبحانه، إذ معناه: يا رب إن عذبتهم فأنت خالقهم، وأنت سيدهم وأنت ربهم، وهم خلقك وعبيدك، وإن تغفر لهم فهذا أمرٌ  بيدك سبحانك، لا يعترض عليك أحد، ولا يرد أمرك أحد، ولا يمكن أن تسأل عما تفعل؛ لأن الله عز وجل له الملك كله، وله الأمر كله في خلقه.
    والأقرب أنه يعني الاستعطاف، لكن للذين لا يزالون في دائرة الإسلام والتوحيد، وأما المرتدون والكفار فلا يستعطف لهم النبي [؛ لأنه يعلم أن الله حرّم الجنة على الكافرين، ولذلك قال أهل التفسير: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قالها على وجه التسليم والتفويض، وليس على وجه الاسترحام؛ لأنه يعلم أن من قال إن عيسى عليه السلام هو الله؟ فقد أشرك بالله عز وجل وكفر به، ومن كان كذلك لا يرحمه الله إذا مات عليه؛ لأن الله لا يرحم من يشرك به ومن يكفر به ولا يغفر له، كما قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وكل من أشرك بالله تعالى فقد سدّ على نفسه باب الرحمة بنفسه، أي هو الذي أغلق الباب بيده؛ لأن الله عز وجل فتح لعباده أبواب المغفرة والرحمة، لكن بعض العباد يسدون على أنفسهم باب الرحمة.
      وقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: الذي لا يرد قوله ولا أمره، والغالب جل وعلا، والحكيم: الذي لا يفعل ولا يقول إلا الصواب والحق، فيضع العقوبة في محلها، والرحمة في محلها.
      نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا من الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علما إنه هو العليم الحكيم، والحمد لله رب العالمين.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

:: رسالة الكفر بالطاغوت :: للشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تأمل رحمك الله وجعلك الله من أهل التوحيد الخلص

ثمار التوحيد في ضوء الكتاب والسنة

اقوال وحكم...