بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ
الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فقد أخبر أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ،
يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا
وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا )).
وسيكون الكلام عن هذا الحديث في مسائل:
المسألة الأولى / عن تخريجه ودرجته.
هذا الحديث أخرجه مسلم (118) واللفظ له، وأحمد (10772و 8030) والترمذي (2195) وابن حبان (6704 ) وغيرهم.
وصححه: مسلم والترمذي وابن حبان وأبو عوانة والبغوي والألباني وغيرهم.
المسألة الثانية / عن موضوعه.
موضوع هذا الحديث هو:
الترهيب من الفتن وبيان خطرها وأضرارها على الناس.
المسألة الثالثة / عن شرحه.
هذا الحديث في الفتن، والفتن نوعان:
النوع الأول: فتن الشبهات.
والمراد بها: الفتن المتعلقة بالدين.
وهي
أشد وأخطر من فتن الشبهات، لأنها قد تخرج الإنسان طهارة التوحيد إلى
نجاسة الشرك والكفر والإلحاد والزندقة أو من نور السنة إلى ظلمة البدع
والضلالات.
وهذه
الشبه تخرج من حين لآخر، وتكثر في وقت وتضعف في آخر، ودعاتها في ازدياد
وتكاثر، وقد تخرج في جريدة أو في مجلة أو في كتاب أو في شريط أو في فضائية
أو في الإنترنت، أو عن طريق مجادلة أو مناظر مع ملحد أو مبتدع.
وقد
يكون الرجل صاحب عقيدة صحيحة طيبة، وحب للتوحيد والسنة، وتعظيم للسلف،
فيجر نفسه إلى السماع والإصغاء لملحد أو مبتدع أو قراءة كتبه، فيورد عليه
شبهة يضل بها ويهلك.
وهذه
الشُّبَه قد تتعلق بالله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، أو بالرسل
والأنبياء، أو بالقرآن، أو بالصحابة، أو بالقدر، أو باليوم الآخر وما فيه،
أو بالغيبيات، أو بالتوحيد والشرك، أو بالسنة والبدعة، أو ببعض الواجبات،
أو المحرمات، أو الأدوية الواردة في السنة.
النوع الثاني: فتن الشهوات.
والمراد بها: الشهوات الموصلة والمشجعة على فعل المعاصي ومقارفتها.
وهذه
الفتن شديدة الخطورة لا سيما في عصرنا، لأنها أكثر إغراء، وأقرب إلى
النفوس الضعيفة، فينخدع بها المسلم أول الأمر، ثم يتورط فيها حتى تسوخ
قدمه في الباطل، ويذهب إيمانه أو يضعف.
ومن أمثلتها:
شهوة المال، وشهوة الفواحش، وشهوة الملاهي، وشهوة المأكولات وشهوة المشروبات، وشهوة الملبوسات، وشهوة تقليد الكفار والفساق.
فشهوة
المال مثلاً تفضي إلى الوقوع في آثام كثيرة، كسفك الدماء بالحروب بين
الدول، أو بين القبائل بعضها مع بعض، أو سرقة بيوت الناس ومتاجرهم
ومراكبهم، أو أكل أموالهم بالطرق والحيل المحرمة، أو بيع الأشياء المحرمة.
وشهوة
الفاحشة تفضي إلى الوقوع في الاغتصاب، والزنا، وعمل قوم لوط، والاستمناء،
واستدراج القُصَّر، وضعاف العقول، إلى ولوج باب الرذيلة، وتفضي إلى
مشاهدة العُري في الفضائيات أو الفيديو أو الإنترنت أو الصحف والمجلات، أو
ملاحقة النساء في الأسواق أو عبر أجهزت التواصل المرئي والمسموع كالهاتف
الجوال وكاميرا الكمبيوتر.
ويزاد على ذلك ما تجر إليه من الضعف في أداء الواجبات، والتقصير والتساهل في القيام بها، بل تركها وهجرها.
وقد يكون الرجل عند عفة وخوف ودين فيلج باب هذا النوع من الفتن فيفسد ويهلك.
المسألة الرابعة / عن فوائدة.
في هذا الحديث جملة من الفوائد:
الفائدة الأولى: التخويف والترهيب من الفتن.
وهذا الخوف يعود على العبد بمصالح جمة، ومن هذه المصالح:
أولاً: الإقبال على طلب العلم الشرعي، والجد فيه.
وذلك لأن العلم الشرعي يكشفها له، ويُعرِّفه أحكامها، ويدلُّه على الموقف الصحيح منها، وكلما ازداد منه زاد بها بصيرة.
ثانياً: كثرة التضرع إلى الله ودعائه بأن يعيذه ويسلمه من الفتن لا سيما في الأوقات والأزمان الفاضلة.
والله تعالى يحب التضرع إليه، ويحب المتضرعين، وقد قال سبحانه حاثاً لهم ومرغباً في التضرع إليه: {
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ }.
ثالثاً: البعد عن الأسباب المؤدية إلى الفتن.
ومن هذه الأسباب:
عدم
مشاهدة أو سماع القنوات الفضائية أو المواقع العنكبوتية أو الأشرطة
والسيديهيات التي تثيرها وتؤججها، وترك القراءة في الكتب والجرائد والمجلات
التي تذكيها وتشعلها، والبعد عن أماكنها وساحاتها وشوارعها ومسارحها
ونواديها ومقاهيها، ومجانبة مخالطة دعاتها ومن عُرفوا بالتشغيب أو كثرة
الكلام أو المسارعة إلى ولوج الفتن.
الفائدة الثانية: الحض على المسارعة والإكثار من الأعمال الصالحة قبل تركها بسبب الانشغال بحلول وتراكم الفتن.
وهذا الحض من النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من أعما البر قبل نشوب الفتن وتراكمها له أسباب، ومن هذه الأسباب:
أولاً:
أن الأعمال الصالحة تكون حماية للإنسان من الفتن، لأنها تقوي إيمانه،
وتزيد في ثباته، ولأن الله ـ جل وعلا ـ لا يخيب من أقبل عليه ولزم عبادته
وطاعته.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حين كان غلاماً في وصيته مشهورة: (( تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)) رواه أحمد وغيره.
وأخرج البخاري (6502) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((
إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ
بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ
بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ
الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ
سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا
تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ
الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ )).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "جامع العلوم والحكم"(ص424رقم:19):
وفي الجملة: فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.اهـ
وقال العلامة العثيمين ـ رحمه الله ـ في "شرح رياض الصالحين"(1/105) عن الفتن إذا لاقت إيماناً ضعيفاً:
وذلك
لأنها فتن قوية ترد على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي وأنهكته الشهوات، فلا
يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة، فتفتك به فتكاً، وتمزقه كما يمزق السهم
رميته.اهـ
وقد
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مزيد ترغيب لأمته في الإكثار من
العبادات أزمنة الفتن، وبين لهم عظم الأجر على فعلها، فقال صلى الله عليه
وسلم: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) أخرجه مسلم في "صحيحه"(2948).
وقال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم" عند هذا الحديث:
المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، وينشغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد.اهـ
ثانياً: أن الفتن إذا حلت تحول بين الإنسان والعمل الصالح أو تضعفه أو تنقص ثوابه.
وذلك
لأن الفتنة قد تكون في الدماء فيضعف الأمن، ويتسلط الأشرار والمجرمون،
وينتشر القتل، فينشغل العبد عن الطاعات والجمع والجماعات بحفظ نفسه أو
أهله أو ماله.
وقد تؤدي هذه الفتن إلى سجنه أو تشريده أو تعذيبه فينشغل عن الإقبال على الأعمال الصالحة بنفسه، وما هو فيه من حال.
أو
تدخل عليه الهموم والغموم والكروب والهواجس والمخاوف، فتشتت ذهنه، وتشغل
قبله، وتزعج تفكيره، فيضعف خشوعه، ويقل حضور قلبه عند أداء العبادات،
فينقص أجره وثوابه.
الفائدة الثالثة: بيان شيء من شدائد وفظائع هذه الفتن.
ومن هذه الفظائع والعظائم:
أن يمُسي الرجل وهو مؤمن ثم يصبح بسببها كافراً أو يصبح وهو مؤمن ثم يمسي بسببها كافراً.
وهذا
الكفر الذي أدت إليه هذه الفتن قد يكون أكبراً مخرجاً عن الملة، وقد يكون
أصغراً لا ينقل عن الملة، على حسب العرض الذي يبيع به الإنسان دينه.
أشار إلى ذلك العلامة العثيمين ـ رحمه الله ـ في "التعليق على صحيح مسلم"(ص380).
وقال العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع فتاويه"(25/108):
(( يبيع دينه بعرض من الدنيا )): وذلك
بأن يتكلم بالكفر، أو يعمل به من أجل الدنيا، ويأتيه من يقول له: تسب
الله، تسب الرسول، تدع الصلاة ونعطيك كذا وكذا، تستحل الزنا، تستحل الخمر،
ونعطيك كذا وكذا، أو يقولوا: لا تكن مع المؤمنين ونعطيك كذا وكذا لتكون مع
الكافرين، فيغريه بأن يكون مع الكافرين وفي حزب الكافرين، وفي أنصارهم،
حتى يعطيه المال الكثير فيكون ولياً للكافرين وعدواً للمؤمنين، وأنواع
الردة كثيرة جداً، وغالباً ما يكون ذلك بسبب الدنيا، حب الدنيا وإيثارها
على الآخرة.اهـ
الفائدة الرابعة: عظم خطر هذه الفتن.
وهو مأخوذ من جهتين:
الأولى: أن الرجل ينقلب بسببها في في اليوم الواحد هذا الانقلاب الكبير الشنيع.
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالجزء المظلم من الليل لا المقمر.
وشدة الظلام تصعب معه المعرفة، ويسهل في وقته الوقوع في ما يضر ويهلك.
وكذلك
الفتن إذا اشتدت وازدادت وتوسعت يصعب وقتها معرفة الحق، ويضعف العمل به،
وتفسد الأحوال، ويضعف الدين، وتختل الحياة، وتذهب الدنيا.
الفائدة الخامسة: أن الإقبال على الدنيا وشهواتها من أكبر أسباب الوقوع في الفتن وولوجها، والانحراف عن الدين.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم عن سبب تغير العبد من الإيمان إلى الكفر: (( يبيع دينه بعرض من الدنيا )).
وقال العلامة العثيمين ـ رحمه الله ـ في "شرح رياض الصالحين"(1/150):
ولا
تظن أن العرض من الدنيا هو المال، كل متاع الدنيا عرض سواء مال أو جاه أو
رئاسة أو نساء أو غير ذلك، كل ما في الدنيا من متاع فإنه عرض.اهـ
الفائدة السادسة: أن المبادرة بالأعمال الصالحة من أسباب ثبات الإيمان، وأن تركها من عوامل الشك والتأثر بالفتن.
ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ورغب.