خطبة عن الزهد في الدنيا وذكر فراقها وتقلبها بأهلها إلى أن يفضوا إلى ما قدموا : للعلامة حافظ الحكمي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خطبة في الزهد في الدنيا وذكر فراقها وتقلبها بأهلها إلى أن يفضوا إلى ما قدموا
لفضيلة الشيخ العلاّمة:حافظ بن أحمد الحكمي - رحمه الله تعالى
الحمد لله مولى الحمد وأهله، والشكر له على نعمه وفضله، علم وألهم، ودبر فأحكم، وقضى فأبرم، وشرع
وألزم، وأنزل الكتاب المحكم، على الرسول الأكرم بالصراط الأقوم، والنور المبين والبرهان الأعظم، أحمده
تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله من خير ما يعلم، وأعوذ به من شر ما يعلم، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكرم نبي أرسله صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه ومن اتبع أثره وقفى منهجه الأقوم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله عباد الله رحمكم الله.
عباد الله حتى متى إلى الدنيا سكونكم، وإلى عمارتِها ركونكم،
أما اعتبرتم بِما مضى من أسلافكم، ومن وارته الأرض من آلافكم، ومن
فجعتم به من أقرانكم،
وفارقتم من إخوانكم، ولماذا على الدنيا إقبالكم، وبشهواتِها اشتغالكم، وقد وعظكم الكثير، وأتاكم
النذير، وأنتم عما يراد بكم ساهون، وبلذات الفانية لاهون، وقد رأيتم انقلاب أهل الشهوات وعاينتم ما
حل بِهم من المصيبات كم خرمت أيدي المنون، من قرون بعد قرون، يذهب أناس ويتبعهم الآخرون،
انظروا إلى الأمم الماضية، والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم على حين غفلة
الحمام، فأمحت من الدنيا أثارهم، ولَم يبق إلا أخبارهم، وأصبحوا رمما في التراب إلى يوم الحشر
والمآب، كم من ذي منعة وسلطان، وجنود وأعوان، تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها
القصور والدساكر، وخدمه الوزراء والعساكر، وجمع الأموال والذخائر، ومنح السراري والحرائر، أتاه
من أمر الله ما لا يرد، ونزل به من قضاء الله ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز
القهار، قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزته كل ذي سلطان، وأباد بقوته كل ديان، فالبدار
البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لكم من مصائدها، وتحلت لكم من زينتها،
وأظهرت لكم من بَهجتها وأبرزت لكم من شهواتِها، وأخفت عنكم من قواتلها وهلكاتِها، فهل يحرص
عليها لبيب، أو يسر بِها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عين من
يخى البيات، وتسكن نفس من يتوقع الممات، وما عسى أن ينال جامع الدنيا من لذاتِها، ويتمتع من
بَهجتها مع صنوف عجائبها، وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في عناء مصائبها وطلبها، كم قد غرت
الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولَم تنقذه من صرعته، فبينما هو
كذلك ذاهلاً عن الآخرة والموت وما هنالك، إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما فرط من
الطاعة في دنياه، حين لا ينفع الاستغفار، ولا يقبل الاعتذار، عند هول المنية، ونزول البلية، هنالك خف
عواده، وأسلمه أهله وأولاده، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج الروح رجليه، وتخلى عنه
الصديق، وتولى عنه الصاحب الشفيق،ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما سكن لحده،
منفردًا فيه وحده، احتوشته أعماله ووقع عليه سؤاله وحثوا عليه التراب، وتفرق عنه القرابة
والأحباب، ثُمَّ وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهينًا بِما كسب، واقتسموا تراثه الذي
اكتسب عادت إلى مرعاها ونسيت أختها وما دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا، أم على عادتِها جرينا، عد
إلى ذكرك المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى، كيف أمنتم
هذه الحالة وأنتم صائرون إليها لا محالة، كيف ضيعتم حياتكم وهي مطيتكم إلى مماتكم، أم كيف تَهنؤن
بالشهوات، وهي مطية الآفات، يا من يرقع بآخرته دنياه، ويركب غيه وهواه، يا مؤثر الدنيا على الدين،
أراك ضعيف اليقين أبِهذا أمرك الرحمن، أم على هذا نزل القرآن، أما تذكرت ما أمامك من شدة
الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر،أما صار جمعهم بورا،
ومساكنهم قبورا، كأن لَم يكونوا شيئًا مذكورًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ، كَلاَّ
سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:1-8].
جعلنا الله وإياكم ممن إذا ذكر ادكر، وإذا وعظ اعتبر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب
استغفر، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
المصدر: كتاب (الشيخ حافظ الحكمي، حياته وجهوده العلمية والعملية) للشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى [ص111 - ص114]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خطبة في الزهد في الدنيا وذكر فراقها وتقلبها بأهلها إلى أن يفضوا إلى ما قدموا
لفضيلة الشيخ العلاّمة:حافظ بن أحمد الحكمي - رحمه الله تعالى
الحمد لله مولى الحمد وأهله، والشكر له على نعمه وفضله، علم وألهم، ودبر فأحكم، وقضى فأبرم، وشرع
وألزم، وأنزل الكتاب المحكم، على الرسول الأكرم بالصراط الأقوم، والنور المبين والبرهان الأعظم، أحمده
تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله من خير ما يعلم، وأعوذ به من شر ما يعلم، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكرم نبي أرسله صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه ومن اتبع أثره وقفى منهجه الأقوم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله عباد الله رحمكم الله.
عباد الله حتى متى إلى الدنيا سكونكم، وإلى عمارتِها ركونكم،
أما اعتبرتم بِما مضى من أسلافكم، ومن وارته الأرض من آلافكم، ومن
فجعتم به من أقرانكم،
وفارقتم من إخوانكم، ولماذا على الدنيا إقبالكم، وبشهواتِها اشتغالكم، وقد وعظكم الكثير، وأتاكم
النذير، وأنتم عما يراد بكم ساهون، وبلذات الفانية لاهون، وقد رأيتم انقلاب أهل الشهوات وعاينتم ما
حل بِهم من المصيبات كم خرمت أيدي المنون، من قرون بعد قرون، يذهب أناس ويتبعهم الآخرون،
انظروا إلى الأمم الماضية، والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم على حين غفلة
الحمام، فأمحت من الدنيا أثارهم، ولَم يبق إلا أخبارهم، وأصبحوا رمما في التراب إلى يوم الحشر
والمآب، كم من ذي منعة وسلطان، وجنود وأعوان، تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها
القصور والدساكر، وخدمه الوزراء والعساكر، وجمع الأموال والذخائر، ومنح السراري والحرائر، أتاه
من أمر الله ما لا يرد، ونزل به من قضاء الله ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز
القهار، قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزته كل ذي سلطان، وأباد بقوته كل ديان، فالبدار
البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لكم من مصائدها، وتحلت لكم من زينتها،
وأظهرت لكم من بَهجتها وأبرزت لكم من شهواتِها، وأخفت عنكم من قواتلها وهلكاتِها، فهل يحرص
عليها لبيب، أو يسر بِها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عين من
يخى البيات، وتسكن نفس من يتوقع الممات، وما عسى أن ينال جامع الدنيا من لذاتِها، ويتمتع من
بَهجتها مع صنوف عجائبها، وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في عناء مصائبها وطلبها، كم قد غرت
الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولَم تنقذه من صرعته، فبينما هو
كذلك ذاهلاً عن الآخرة والموت وما هنالك، إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما فرط من
الطاعة في دنياه، حين لا ينفع الاستغفار، ولا يقبل الاعتذار، عند هول المنية، ونزول البلية، هنالك خف
عواده، وأسلمه أهله وأولاده، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج الروح رجليه، وتخلى عنه
الصديق، وتولى عنه الصاحب الشفيق،ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما سكن لحده،
منفردًا فيه وحده، احتوشته أعماله ووقع عليه سؤاله وحثوا عليه التراب، وتفرق عنه القرابة
والأحباب، ثُمَّ وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهينًا بِما كسب، واقتسموا تراثه الذي
اكتسب عادت إلى مرعاها ونسيت أختها وما دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا، أم على عادتِها جرينا، عد
إلى ذكرك المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى، كيف أمنتم
هذه الحالة وأنتم صائرون إليها لا محالة، كيف ضيعتم حياتكم وهي مطيتكم إلى مماتكم، أم كيف تَهنؤن
بالشهوات، وهي مطية الآفات، يا من يرقع بآخرته دنياه، ويركب غيه وهواه، يا مؤثر الدنيا على الدين،
أراك ضعيف اليقين أبِهذا أمرك الرحمن، أم على هذا نزل القرآن، أما تذكرت ما أمامك من شدة
الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر،أما صار جمعهم بورا،
ومساكنهم قبورا، كأن لَم يكونوا شيئًا مذكورًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ، كَلاَّ
سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:1-8].
جعلنا الله وإياكم ممن إذا ذكر ادكر، وإذا وعظ اعتبر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب
استغفر، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
المصدر: كتاب (الشيخ حافظ الحكمي، حياته وجهوده العلمية والعملية) للشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى [ص111 - ص114]