نصيحة مهمة إلى عامة الأمة
نصيحة مهمة إلى عامة الأمة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملاً بقوله سبحانه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[1]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[2].
إذا علم هذا فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله سبحانه، فإنها جماع الخير، وأساس السعادة، والزاد النافع في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[4]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[5]، وقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ[6]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[7]، وقال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ[8]؛ ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بالتقوى، والتحريض على التخلق بها، وبيان ما وعد الله به أهلها من تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وغفران السيئات، والفوز بنعيم الجنات، فحقيق بالعبد الناصح لنفسه أن يلزم التقوى، ويدعو إليها، ويحذر الناس من تركها.
وحقيقة التقوى أداء ما أوجبه الله على العبد من الطاعة، واجتناب ما حرم عليه من المعصية. وأصلها وأساسها: شهادة أن لا الله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وليس المراد مجرد لفظ الشهادة، وإنما المراد معناها علماً وعملاً، فيخلص العبد عباداته لله وحده مؤمنا بأن الله ربه ومعبوده الحق لا إله غيره ولا رب سواه، ويتبرأ من عبادة غير الله ويكفر بها، ويعتقد بطلانها، ويؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله حقا، أرسله الله إلى جميع الثقلين، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، ويؤمن بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، ويقدم محبة الله ورسوله على ما سواهما، ويحب المرء المسلم لا يحبه إلا لله، ويكره الشرك كما يكره أن يقذف في النار، وبذلك يجد حلاوة الإيمان؛ كمل جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))[9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))[10].
وهذا يوجب على المسلم أن يتمسك بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدم طاعته على هوى نفسه، وعلى طاعة كل أحد، ومتى آثر هوى نفسه على طاعة الله ورسوله كان ذلك ضعفا في إيمانه، ونقصا في شهادته أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وفي قول الرب سبحانه: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[11] تذكير بالآخرة وتحريض على الاستعداد لها، وتحذير من أهوالها وشدائدها.
وفي قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[12] الأمر بلزوم التقوى، والمحاسبة للنفس على ما قدمت لآخرتها، فإن كان خيراً فالواجب حمد الله عليه وسؤاله الثبات والاستقامة، وإن كان شرا فالواجب التوبة منه والندم على التفريط، واستقبال باقي العمر بعمل صالح. قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى[13]، وفي قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[14] التحذير من نسيان أمر الله ونهيه والإعراض عما جاء به الرسول من الهدى، والدلالة على أن من أعرض عن أمر الله، ونسي حقه أنساه الله مصالح نفسه، وهي أسباب نجاتها وخلاصها من عذاب الله حتى تكون أمواله وجاهه وطول حياته من أعظم الأسباب في شدة عذابه وخسرانه. فنسأل الله العافية والسلامة من كل ما يسخطه.
ومن أعظم التقوى التفقه في الدين، وتدبر القرآن الكريم، والامتثال لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والوقوف عند حدوده، والسؤال عن كل ما أشكل من ذلك. قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[15]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ[16]، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[17]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[18]، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين))[20]، فتدبروا رحمكم الله كتاب ربكم، وأكثروا من تلاوته وسماعه، واعمروا به المجالس وعالجوا به أمراض القلوب ليحصل لكم الشفاء من جميع أنواع البلاء.
ومن أهم التقوى إقامة الصلوات الخمس؛ بل ذلك هو عمود الدين، وميزان الأعمال، والفارق بين المسلم والكافر، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة))[21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)). [22]
ومن أهم واجباتها في حق الرجال: أداؤها في الجماعة في المساجد؛ بل ذلك من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة التي لا يجوز الإخلال بها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار))[23]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أن رجلاً أعمى قال له: (يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل تسمع النداء بالصلاة))؟ قال: نعم، قال: ((فأجب))[24]، وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة))[25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر))[26]، وقال ابن مسعود: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض)[27]؛ فاتقوا الله - عباد الله -، وحافظوا على الصلوات في المساجد، واحذروا ما يصدكم عن ذلك، ويلهيكم عن ذكر الله من مجالس اللهو، والقيل والقال، وسماع الأغاني، وأشباه ذلك مما يصد عن الحق.
وكثير من الناس يظن أن المقصود من الأمر بالصلاة في المساجد أداء الصلاة في جماعة فقط، فإذا وجد عنده في بيته رجل أو أكثر قال: نحن جماعة فلا بأس أن نصلي في البيت، وهذا خطأ وقول على الله بلا علم.
والله أوجب الصلاة في المساجد لحكم كثيرة، منها: اجتماع المسلمين في بيت الله على هذه العبادة العظيمة خاضعين ذليلين بين يدي الله سبحانه، يرجون رحمته ويخافون عقابه، ومنها التعارف والتعاون على البر والتقوى، فإذا رأى المسلم إخوانه يؤدون الصلاة في المسجد اقتدى بهم في ذلك؛ الأمير والشريف والغني والفقير وغيرهم في هذا سواء؛ فيحصل لهم بذلك الاجتماع على الحق، والتعارف، ومشاهدة الغني لحال الفقير، والأمير لرعيته، ومنها أن ذلك مخالفة لأهل النفاق، وإرغاما للشيطان؛ لأن الشيطان يكره ظهور شرائع الإسلام، والمنافق يتثاقل عن الصلاة في المساجد، ولا يأتيها إلا دبارا، فالمحافظ على الصلوات في المساجد قد أطاع ربه، وأطاع رسوله، وخالف هواه، وأرغم شيطانه، وسلم من مشابهة أهل النفاق، والمتخلف عنها بضد ذلك.
نسأل الله السلامة من طاعة النفس والهوى ونوائب الشيطان.
ومن أهم التقوى أداء الزكاة التي أوجبها الله على المسلمين في أموالهم شكرا له سبحانه على إنعامه، ومواساة لإخوانهم المحاويج، وهو سبحانه أعطى الكثير، ولم يطلب إلا القليل.
ثم هذا المطلوب منفعته لصاحبه، فالله يأجره عليه، ويخلفه عليه، وهو سبحانه غني عن طاعة العباد؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا[28]، وقد قال الله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[29]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نقص مال عبد من صدقة))[30]؛ فأنت أيها المسلم الخائف من ربه المصدق بخبره إياك أن تظن أن الزكاة تنقص مالك، بل هي تزيده وتنميه وتكون سببا للبركة، وربح التجارة، ومع ذلك تؤجر عليها أجرا جزيلا فبادر إلى أداء ما أوجب الله عليك وأحسن ظنك بربك، وأبشر بالخلف والأجر الجزيل، ولا ريب أن منع الزكاة من أعظم الأسباب لحلول العقوبات، ومرض القلوب، ونزع البركات، وحبس الغيث من السماء، وقد توعد الله من بخل بالزكاة بالعذاب الأليم؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ[31].
وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن أهل الأموال الذين لا يؤدون زكاتها يعذبون بها يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فاحذروا رحمكم الله البخل بما أوجب الله عليكم، وسارعوا إلى إخراج الزكاة من أموالكم كلما حال حولها، سواء كانت ذهباً أو فضة، أو عروض تجارة، وهي السلع المعدة للبيع، سواء كانت أراضي أو بيوتاً أو دكاكين أو نخيلاً، أو أقمشة، أو سيارات أو أخشاباً، أو حبوباً، أو غير ذلك، فقد جاء الحديث عن سمرة بن جندب قال: (أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع)[32].
وصفة إخراج زكاة العروض أن تقوم عند تمام الحول ثم يخرج ربع عشر قيمتها قلت أو كثرت إذا بلغت النصاب.
ومن أموال الزكاة الإبل، والبقر، والغنم. ومن أموال الزكاة أيضا التمر، والعنب، والحنطة، والشعير، فالواجب على المسلم أن يهتم بأمر الزكاة، ويسأل عن كل ما أشكل عليه حتى يؤدي ما أوجب الله عليه على بصيرة، ويسلم من إثم التفريط والبخل الذميم الوخيم.
ومما قد يخفى ويحصل فيه التفريط أن بعض الناس قد يكون عنده عنب كثير يبلغ النصاب فلا يزكيه جهلاً منه وتفريطاً، وبعض الناس يكون عنده زرع مبكر فلا يزكيه، والزكاة فيه واجبة إذا بلغ نصاباً بنفسه أو بضمه إلى الزرع الذي قد زرع معه في سنته. والمقصود نصيحتكم وتنبيهكم على ما يجب محبة لكم وخوفاً عليكم وبراءة للذمة، وحذراً من إثم السكوت.
والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يمن علينا جميعا بصلاح القلوب والأعمال، والفقه في الدين، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق حكومتنا لما فيه الخير والصلاح للعباد في المعاش والمعاد، إنه على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملاً بقوله سبحانه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[1]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[2].
إذا علم هذا فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله سبحانه، فإنها جماع الخير، وأساس السعادة، والزاد النافع في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[4]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[5]، وقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ[6]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[7]، وقال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ[8]؛ ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بالتقوى، والتحريض على التخلق بها، وبيان ما وعد الله به أهلها من تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وغفران السيئات، والفوز بنعيم الجنات، فحقيق بالعبد الناصح لنفسه أن يلزم التقوى، ويدعو إليها، ويحذر الناس من تركها.
وحقيقة التقوى أداء ما أوجبه الله على العبد من الطاعة، واجتناب ما حرم عليه من المعصية. وأصلها وأساسها: شهادة أن لا الله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وليس المراد مجرد لفظ الشهادة، وإنما المراد معناها علماً وعملاً، فيخلص العبد عباداته لله وحده مؤمنا بأن الله ربه ومعبوده الحق لا إله غيره ولا رب سواه، ويتبرأ من عبادة غير الله ويكفر بها، ويعتقد بطلانها، ويؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله حقا، أرسله الله إلى جميع الثقلين، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، ويؤمن بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، ويقدم محبة الله ورسوله على ما سواهما، ويحب المرء المسلم لا يحبه إلا لله، ويكره الشرك كما يكره أن يقذف في النار، وبذلك يجد حلاوة الإيمان؛ كمل جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))[9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))[10].
وهذا يوجب على المسلم أن يتمسك بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدم طاعته على هوى نفسه، وعلى طاعة كل أحد، ومتى آثر هوى نفسه على طاعة الله ورسوله كان ذلك ضعفا في إيمانه، ونقصا في شهادته أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وفي قول الرب سبحانه: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[11] تذكير بالآخرة وتحريض على الاستعداد لها، وتحذير من أهوالها وشدائدها.
وفي قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[12] الأمر بلزوم التقوى، والمحاسبة للنفس على ما قدمت لآخرتها، فإن كان خيراً فالواجب حمد الله عليه وسؤاله الثبات والاستقامة، وإن كان شرا فالواجب التوبة منه والندم على التفريط، واستقبال باقي العمر بعمل صالح. قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى[13]، وفي قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[14] التحذير من نسيان أمر الله ونهيه والإعراض عما جاء به الرسول من الهدى، والدلالة على أن من أعرض عن أمر الله، ونسي حقه أنساه الله مصالح نفسه، وهي أسباب نجاتها وخلاصها من عذاب الله حتى تكون أمواله وجاهه وطول حياته من أعظم الأسباب في شدة عذابه وخسرانه. فنسأل الله العافية والسلامة من كل ما يسخطه.
ومن أعظم التقوى التفقه في الدين، وتدبر القرآن الكريم، والامتثال لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والوقوف عند حدوده، والسؤال عن كل ما أشكل من ذلك. قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[15]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ[16]، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[17]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[18]، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين))[20]، فتدبروا رحمكم الله كتاب ربكم، وأكثروا من تلاوته وسماعه، واعمروا به المجالس وعالجوا به أمراض القلوب ليحصل لكم الشفاء من جميع أنواع البلاء.
ومن أهم التقوى إقامة الصلوات الخمس؛ بل ذلك هو عمود الدين، وميزان الأعمال، والفارق بين المسلم والكافر، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة))[21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)). [22]
ومن أهم واجباتها في حق الرجال: أداؤها في الجماعة في المساجد؛ بل ذلك من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة التي لا يجوز الإخلال بها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار))[23]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أن رجلاً أعمى قال له: (يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل تسمع النداء بالصلاة))؟ قال: نعم، قال: ((فأجب))[24]، وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة))[25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر))[26]، وقال ابن مسعود: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض)[27]؛ فاتقوا الله - عباد الله -، وحافظوا على الصلوات في المساجد، واحذروا ما يصدكم عن ذلك، ويلهيكم عن ذكر الله من مجالس اللهو، والقيل والقال، وسماع الأغاني، وأشباه ذلك مما يصد عن الحق.
وكثير من الناس يظن أن المقصود من الأمر بالصلاة في المساجد أداء الصلاة في جماعة فقط، فإذا وجد عنده في بيته رجل أو أكثر قال: نحن جماعة فلا بأس أن نصلي في البيت، وهذا خطأ وقول على الله بلا علم.
والله أوجب الصلاة في المساجد لحكم كثيرة، منها: اجتماع المسلمين في بيت الله على هذه العبادة العظيمة خاضعين ذليلين بين يدي الله سبحانه، يرجون رحمته ويخافون عقابه، ومنها التعارف والتعاون على البر والتقوى، فإذا رأى المسلم إخوانه يؤدون الصلاة في المسجد اقتدى بهم في ذلك؛ الأمير والشريف والغني والفقير وغيرهم في هذا سواء؛ فيحصل لهم بذلك الاجتماع على الحق، والتعارف، ومشاهدة الغني لحال الفقير، والأمير لرعيته، ومنها أن ذلك مخالفة لأهل النفاق، وإرغاما للشيطان؛ لأن الشيطان يكره ظهور شرائع الإسلام، والمنافق يتثاقل عن الصلاة في المساجد، ولا يأتيها إلا دبارا، فالمحافظ على الصلوات في المساجد قد أطاع ربه، وأطاع رسوله، وخالف هواه، وأرغم شيطانه، وسلم من مشابهة أهل النفاق، والمتخلف عنها بضد ذلك.
نسأل الله السلامة من طاعة النفس والهوى ونوائب الشيطان.
ومن أهم التقوى أداء الزكاة التي أوجبها الله على المسلمين في أموالهم شكرا له سبحانه على إنعامه، ومواساة لإخوانهم المحاويج، وهو سبحانه أعطى الكثير، ولم يطلب إلا القليل.
ثم هذا المطلوب منفعته لصاحبه، فالله يأجره عليه، ويخلفه عليه، وهو سبحانه غني عن طاعة العباد؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا[28]، وقد قال الله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[29]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نقص مال عبد من صدقة))[30]؛ فأنت أيها المسلم الخائف من ربه المصدق بخبره إياك أن تظن أن الزكاة تنقص مالك، بل هي تزيده وتنميه وتكون سببا للبركة، وربح التجارة، ومع ذلك تؤجر عليها أجرا جزيلا فبادر إلى أداء ما أوجب الله عليك وأحسن ظنك بربك، وأبشر بالخلف والأجر الجزيل، ولا ريب أن منع الزكاة من أعظم الأسباب لحلول العقوبات، ومرض القلوب، ونزع البركات، وحبس الغيث من السماء، وقد توعد الله من بخل بالزكاة بالعذاب الأليم؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ[31].
وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن أهل الأموال الذين لا يؤدون زكاتها يعذبون بها يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فاحذروا رحمكم الله البخل بما أوجب الله عليكم، وسارعوا إلى إخراج الزكاة من أموالكم كلما حال حولها، سواء كانت ذهباً أو فضة، أو عروض تجارة، وهي السلع المعدة للبيع، سواء كانت أراضي أو بيوتاً أو دكاكين أو نخيلاً، أو أقمشة، أو سيارات أو أخشاباً، أو حبوباً، أو غير ذلك، فقد جاء الحديث عن سمرة بن جندب قال: (أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع)[32].
وصفة إخراج زكاة العروض أن تقوم عند تمام الحول ثم يخرج ربع عشر قيمتها قلت أو كثرت إذا بلغت النصاب.
ومن أموال الزكاة الإبل، والبقر، والغنم. ومن أموال الزكاة أيضا التمر، والعنب، والحنطة، والشعير، فالواجب على المسلم أن يهتم بأمر الزكاة، ويسأل عن كل ما أشكل عليه حتى يؤدي ما أوجب الله عليه على بصيرة، ويسلم من إثم التفريط والبخل الذميم الوخيم.
ومما قد يخفى ويحصل فيه التفريط أن بعض الناس قد يكون عنده عنب كثير يبلغ النصاب فلا يزكيه جهلاً منه وتفريطاً، وبعض الناس يكون عنده زرع مبكر فلا يزكيه، والزكاة فيه واجبة إذا بلغ نصاباً بنفسه أو بضمه إلى الزرع الذي قد زرع معه في سنته. والمقصود نصيحتكم وتنبيهكم على ما يجب محبة لكم وخوفاً عليكم وبراءة للذمة، وحذراً من إثم السكوت.
والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يمن علينا جميعا بصلاح القلوب والأعمال، والفقه في الدين، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق حكومتنا لما فيه الخير والصلاح للعباد في المعاش والمعاد، إنه على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر :
[1] سورة الذاريات الآية 55.
[2] رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث رقم 82.
[3] سورة البقرة من الآية 197.
[4] سورة الحج الآية 1.
[5] سورة الحشر الآيتان 18 – 19.
[6] سورة القلم الآية 34.
[7] سورة الطلاق الآيتان 2 – 3.
[8] سورة الأنفال الآية 29.
[9] رواه البخاري في كتاب الإيمان باب حلاوة الإيمان حديث رقم 15، ورواه مسلم في كتاب الإيمان حديث رقم 60 واللفظ له.
[10] رواه البخاري في كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم رقم 14، ورواه مسلم في كتاب الإيمان حديث رقم 63 واللفظ له.
[11] سورة الحج الآية 1.
[12] سورة الحشر الآية 18.
[13] سورة طه الآية 82.
[14] سورة الحشر الآية 19.
[15] سورة الإسراء الآية 9.
[16] سورة فصلت الآية 44.
[17] سورة ص الآية 29.
[18] سورة محمد الآية 24.
[19] سورة النحل الآية 43.
[20] رواه البخاري في كتاب العلم حديث رقم 69 ومسلم في الزكاة 1719 و 1721 واللفظ متفق عليه.
[21] رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 116 وأحمد في كتاب باقي مسند المكثرين حديث 14451 والترمذي في كتاب الإيمان 2544 واللفظ له.
[22] رواه الترمذي في كتاب الإيمان حديث 2540 والنسائي في كتاب الصلاة 459، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها 1069.
[23] رواه البخاري في كتاب الأذان حديث رقم 608 وكتاب الخصومات حديث رقم 2242، ورواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث 1041 واللفظ له.
[24] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 1044 ورواه النسائي في كتاب الإقامة حديث رقم 841.
[25] رواه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات حديث 784.
[26] رواه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات حديث رقم 785.
[27] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 1045.
[28] سورة الجاثية الآية 15.
[29] سورة سبأ الآية 39.
[30] رواه الترمذي في كتاب الزهد حديث رقم 2247 ورواه الإمام أحمد في كتاب مسند الشاميين حديث رقم 17339.
[31] سورة التوبة الآيتان 34 – 35.
[32] رواه أبو داود في كتاب الزكاة حديث رقم 1335.