مَن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومَن قلَّ ورعه مات قلبه)



- عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) [1313] رواه البخاري (6120). .
قال الخطَّابي: (قال الشَّيخ: معنى قوله ((النُّبوَّة الأولى)) أنَّ الحَيَاء لم يزل أمره ثابتًا، واستعماله واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم ينسخ فيما نسخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها) [1314] ((معالم السنن)) للخطَّابي (4/109). .
قال ابن القيِّم: (خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّة الإنسانيَّة، فمَن لا حياء فيه، فليس معه مِن الإنسانيَّة إلَّا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة، كما أنَّه ليس معه مِن الخير شيء) [1315] ((مفتاح دار السَّعادة)) (1/277) بتصرُّف يسير. .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستُّون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلَّا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطَّريق. والحياء شعبة مِن الإيمان)) [1316] رواه مسلم (35). .
قال الخطَّابي: (معنى قوله: ((الحَيَاء شعبة مِن الإيمان)) أنَّ الحَيَاء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها، فصار بذلك مِن الإيمان) [1317] ((معالم السنن)) (4/312). .
و(إنَّما أفرد صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الخصلة مِن خصال الإيمان في هذا الحديث، وخصَّها بالذِّكر دون غيرها مِن باقي شعب الإيمان؛ لأنَّ الحَيَاء كالدَّاعي إلى باقي الشُّعب، فإنَّ صاحب الحَيَاء يخاف فضيحة الدُّنْيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلمَّا كان الحَيَاء كالسَّبب لفعل باقي الشُّعب؛ خُصَّ بالذِّكر ولم يذكر غيره معه) [1318] ((المجالس الوعظيَّة في شرح أحاديث خير البريَّة)) للسفيري (1/365). .
وقال السعدي: (هذا الحديث مِن جملة النُّصوص الدَّالة على أنَّ الإيمان اسمٌ يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللِّسان، فكلُّ ما يقرِّب إلى الله، وما يحبُّه ويرضاه مِن واجبٍ ومستحبٍّ فإنَّه داخلٌ في الإيمان. وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو: الحَيَاء. ولعلَّ ذكر الحَيَاء؛ لأنَّه السَّبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإنَّ مَن استحيا مِن الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجلِّيه عليه بأسمائه الحسنى، -والعبد مع هذا كثير التَّقصير مع هذا الرَّبِّ الجليل الكبير، يظلم نفسه ويجني عليها- أوجب له هذا الحَيَاء التوقِّي مِن الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبَّات) [1319] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص 179). .
- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَاء لا يأتي إلَّا بخير)) [1320] رواه البخاري (6117)، ومسلم (37). .
قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ مَن استحيا مِن النَّاس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعيةٌ له إلى أن يكون أشدَّ حياءً مِن ربِّه وخالقه، ومَن استحيا مِن ربِّه فإنَّ حياءه زاجرٌ له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأنَّ كلَّ ذي فطرة صحيحة، يعلم أنَّ الله تعالى النَّافع له والضَّار والرَّزاق والمحيي والمميت، فإذا عَلِم ذلك فينبغي له أن يستحيي منه عزَّ وجلَّ) [1321] ((شرح صحيح البخاري)) (9/297). .
قال ابن رجب: (... ((الحياء لا يأتي إلَّا بخير)): فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار) [1322] ((جامع العلوم والحكم)) (1/501). .
قال ابن حجر: (إذا صار الحَيَاء عادة، وتخَلَّق به صاحبه، يكون سببًا يجلب الخير إليه، فيكون منه الخير بالذَّات والسَّبب) [1323] ((فتح الباري)) (10/522). .
فالحَيَاء فضيلة مِن فضائل الفطرة، وهو مادَّة الخير والفضيلة، وبهذا وصفه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الحَيَاء خيرٌ كلُّه)).
- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ على رجل، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحيى حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان)) [1324] رواه البخاري (6118). .
قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ الحَيَاء مِن أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ وذلك أنَّه لما كان الحَيَاء يمنع مِن الفواحش، ويحمل على الصَّبر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفجور، ويقيِّده عن المعاصي، ويحمله على الطَّاعة، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحَيَاء غريزة، والإيمان فعل المؤمن، فاشتبها مِن هذه الجهة) [1325] ((شرح صحيح البخاري)) (9/298). .
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء)) [1326] رواه التِّرمذي (2458) مِن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال: غريب. وحسَّن إسناده النَّووي في ((المجموع)) (5/105)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح التِّرمذي)) (2458). .
قال ابن رجب: (يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج) [1327] ((جامع العلوم والحكم)) (ص 464). . 
وقال المباركفوريُّ في شرح الحديث: (قوله: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحَيَاء)). أي: حياءً ثابتًا ولازمًا صادقًا، قاله المناويُّ، وقيل: أي: اتَّقوا الله حقَّ تقاته.
((قلنا يا نبيَّ الله إنَّا لنستحيي)). لم يقولوا: حقَّ الحَيَاء؛ اعترافًا بالعجز عنه.
((والحمد لله)). أي على توفيقنا به.
((قال: ليس ذاك)). أي: ليس حقَّ الحَيَاء ما تحسبونه، بل أن يحفظ جميع جوارحه عمَّا لا يرضى.
((ولكن الاستحياء مِن الله حقَّ الحَيَاء: أن تحفظ الرَّأس)). أي: عن استعماله في غير طاعة الله، بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلِّي للرِّياء، ولا تخضع به لغير الله، ولا ترفعه تكــبُّرًا.
((وما وعى)). أي: جمعه الرَّأس مِن اللِّسان والعين والأذن عمَّا لا يحلُّ استعماله.
((وتحفظ البطن)). أي: عن أكل الحرام.
((وما حوى)). أي ما اتصل اجتماعه به مِن الفرج والرِّجلين واليدين والقلب، فإنَّ هذه الأعضاء متَّصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي، بل في مرضاة الله تعالى.
((وتتذكَّر الموت والبِلَى)). بكسر الباء، مِن بَلَى الشَّيء إذا صار خَلِقًا متفتِّتًا، يعني تتذكَّر صيرورتك في القبر عظامًا بالية.
((ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنْيا)). فإنَّهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القاري.
 وقال المناويُّ: لأنَّهما ضرَّتان، فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى) [1328] ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (7/130-131). .
- وعن يَعْلَى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَــرَاز فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ، يحبُّ الحَيَاء والسَّتْر، فإذا اغتسل أحدكم فليَسْتَتِر)) [1329] رواه أبو داود (4012)، والنسائي (406). وصحَّحه النَّوويُّ في ((الخلاصة)) (1/204)، وقال الشَّوكاني في ((نيل الأوطار)) (1/317): رجال إسناده رجال الصَّحيح. .
- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفُحْش في شيء إلَّا شانه، وما كان الحَيَاء في شيء إلَّا زَانَهُ)) [1330] رواه التِّرمذي (1974)، وابن ماجه (4185)، وأحمد (3/165) (12712). قال التِّرمذي: حسنٌ غريب. وقال ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (4/386): رجاله رجال الصَّحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2635). .

- قال ابن القيِّم في حقيقة الحَيَاء: (قال صاحب المنازل: الحَيَاء: مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص، يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. إنَّما جَعَل الحَيَاء مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص: لما فيه مِن ملاحظة حضور مَن يستَحيي منه، وأوَّل سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحقَّ سبحانه حاضرًا معهم، وعليه بناء سلوكهم. وقوله: إنَّه يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. يعني: أنَّ الحَيَاء حالة حاصلة مِن امتزاج التَّعظيم بالمودَّة، فإذا اقترنا تولَّد بينهما الحَيَاء، والجنيد يقول: إنَّ تولُّده مِن مشاهدة النِّعم ورؤية التَّقصير، ومنهم مَن يقول: تولُّده مِن شعور القلب بما يستحيي منه، فيتولَّد مِن هذا الشُّعور والنُّفرة، حالةٌ تُسَمَّى: الحَيَاء، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنَّ للحياء عدَّة أسباب) [1332] ((مدارج السَّالكين)) (2/253). .
- وقال أيضًا: (حياة القلب يكون فيه قوَّة خُلُق الحَيَاء، وقلَّة الحَيَاء مِن موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أحيى كان الحَيَاء أتم.

*نموذج من حياء السلف رحمهم الله ورضي عنهم 

- عن الشَّعَبي، قال: سمع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه امرأة تقول:
دعتني النَّفس بعد خروج عمرو
إلى اللَّذَّات تطَّلع اطِّلاعا
فقلت لها عجلت فلن تطاعي
ولو طالت إقامته ربَاعا
أحاذر أن أطيعك سبَّ نفسي
ومخزاة تحلِّلني قناعا

فقال لها عمر: (ما الذي منعك مِن ذلك؟ قالت: الحَيَاء وإكرام زوحي. فقال عمر: إنَّ في الحَيَاء لهَنات [1373] هنات: أشياء. انظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2537). ذات ألوان، مَن استحيى اختفى، ومَن اختفى اتَّقى، ومَن اتَّقى وُقِي) [1374] ((محاسبة النَّفس)) لابن أبي الدُّنْيا (ص 113). .
- وقال الجرَّاح الحكمي: (تركت الذُّنوب حياءً أربعين سنة، ثمَّ أدركني الورع) [1375] ((سير أعلام النُّبلاء)) للذهبي (5/190). .
- ورُوِي أنَّ عمرو بن عتبة بن فرقد كان يصلِّي ذات ليلة، فسمعوا صوت الأسد، فهرب مَن كان حوله، وهو قائم يصلِّي فلم ينصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ فقال: إنِّي لأستحي مِن الله أن أخاف شيئًا سواه [1376] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (2/40). .
- وقال جعفر الصَّانع: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل، رجل ممَّن يمارس المعاصي والقاذورات، فجاء يومًا إلى مجلس أحمد يسلِّم عليه، فكأن أحمد لم يردَّ عليه ردًّا تامًّا وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله! لم تنقبض منِّي؟ فإنِّي قد انتقلت عمَّا كنت تعهدني برؤيا رأيتها. قال: وأيُّ شيء رأيت؟ قال: رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في النَّوم كأنَّه على علوٍّ مِن الأرض، وناس كثير أسفل جلوس، قال: فيقوم رجلٌ رجلٌ منهم إليه، فيقول: ادع لي! فيدعو له حتى لم يبق مِن القوم غيري، قال: فأردت أن أقوم فاستحييت مِن قبيح ما كنت عليه، قال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني أدعو لك؟ قال: قلت: يا رسول الله! يقطعني الحَيَاء لقبيح ما أنا عليه. فقال: إن كان يقطعك الحَيَاء فقم فسلني أدع لك فإنَّك لا تسبُّ أحدًا مِن أصحابي. قال: فقمت، فدعا لي، فانتبهت وقد بغَّض الله إليَّ ما كنت عليه. قال: فقال لنا أبو عبد الله: يا جعفر، يا فلان، حدِّثوا بهذا واحفظوه فإنَّه ينفع [1377] ((التوَّابين)) لابن قدامة (ص 152). .
- وكان الرَّبيع بن خُثَيم مِن شدَّة غضه لبصره وإطراقه يَظُنُّ بعض النَّاس أنَّه أعمى، وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء، فكان يضحك ابن مسعود مِن قولها، وكان إذا دقَّ الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقًا غاضًّا بصره [1378] ((إحياء علوم الدِّين)) للغزَّالي (1/181). .
- ولما احتُضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع؟ ومَن أحقُّ منِّي بذلك؟ والله لو أُتيت بالمغفرة مِن الله لأهمَّني الحَيَاء منه ممَّا قد صنعت، وإنَّ الرَّجل ليكون بينه وبين الرَّجل الذَّنْب الصَّغير، فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه [1379] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (2/103). .


من صور الحياء المحمود: 
- الحَيَاء مِن الله: وذلك بالخوف منه ومراقبته، وفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه، وأن يستحي المؤمن أن يراه الله حيث نهاه، وهذا الحَيَاء يمنع صاحبه مِن ارتكاب المعاصي والآثام؛ لأنَّه مرتبطٌ بالله يراقبه في حِلِّه وترحاله.
- الحَيَاء مِن الملائكة: وذلك عندما يستشعر المؤمن بأنَّ الملائكة معه يرافقونه في كلِّ أوقاته، ولا يفارقونه إلَّا عندما يأتي الغائط، وعندما يأتي أهله.
- الحَيَاء مِن النَّاس: وهو دليلٌ على مروءة الإنسان؛ فالمؤمن يستحي أن يؤذي الآخرين سواءً بلسانه أو بيده، فلا يقول القبيح ولا يتلفَّظ بالسُّوء، ولا يطعن أو يغتاب أو ينم، وكذلك يستحي مِن أن تنكشف عوراته فيطَّلع عليها النَّاس. 


صور الحَيَاء المذموم: 
مِن صور الحَيَاء المذموم:
- الحَيَاء في طلب العلم: 
إذا تعلَّق الحَيَاء بأمر دينيٍّ، يمنع الحَيَاء مِن السُّؤال فيه أو عرضه في تعليم أو دعوة، فإنَّ ممَّا ينبغي حينها، رفع الحرج، ومدافعة هذا الحَيَاء الذي يمنع مِن التَّحصيل العلمي أو الدَّعوة إلى الله سواءً عند الرِّجال أو النساء [1340] ((المرأة المسلمة المعاصرة.. إعدادها ومسؤوليتها في الدَّعوة)) لأحمد بن محمد أبا بطين (388-389). .
فقد ورد أنَّ أمَّ سليم رضي الله عنها ((جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستحيي مِن الحقِّ، فهل على المرأة مِن غسلٍ إذا احتلمت؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء. فغطَّت أمُّ سلمة -تعني وجهها- وقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟! قال: نعم، تَرِبَت يمينك، فيمَ يشبهها ولدها)) [1341] رواه البخاري (130)، ومسلم (313). . 
وعن مجاهد، قال: (إنَّ هذا العلم لا يتعلَّمه مستحٍ ولا متكبِّرٍ) [1342] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/287). . 
وعن سعيد بن المسيب ((أنَّ أبا موسى قال لعائشة -رضي الله عنها-: إنِّي أريد أن أسألكِ عن شيءٍ وإنِّي أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عمَّا كنت سائلًا عنه أمَّك التي ولدتك، فإنَّما أنا أمُّك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جلس بين شُعَبِها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)) [1343] رواه مسلم (349). .
ورُوِي عن الأسود ومَسْرُوق قال: ((أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصَّائم، فاستحينا فقمنا قبل أن نسألها، فمشينا لا أدري كم، ثمَّ قلنا: جئنا لنسألها عن حاجة ثمَّ نرجع قبل أن نسألها؟ فرجعنا فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، إنَّا جئنا لنسألك عن شيء فاستحينا فقمنا. فقالت: ما هو؟ سلا عمَّا بدا لكما. قلنا: أكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: قد كان يفعل ذلك، ولكنَّه كان أملك لإرْبِه [1344] لأرْبِه: لحاجته، تعني أنه كان غالبًا لهواه. ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/36). منكم)) [1345] رواه أحمد (6/216) (25857) مِن حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث مرويٌّ في الصَّحيحين بدون ذكر القصَّة. .
- الحَيَاء مِن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
الحَيَاء لا يمنع المسلم مِن أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53].
بل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة، كما قال عزَّ وجلَّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110].
والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حيائه، لم يثنه ذلك عن قول الحقِّ، ويتبيَّن ذلك في موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما أراد أن يشفع في حدٍّ مِن الحدود، فلم يمنعه حياؤه صلى الله عليه وسلم مِن أن يقول لأسامة في غضب: أتشفع في حدٍّ مِن حدود الله؟! ثمَّ قام فاختطب، ثمَّ قال: إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها) [1346] رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688) مِن حديث عائشة رضي الله عنه. .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله ليسأل العبدَ يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذْ رأيتَ المنكر أن تنكره؟ فإذا لقَّن الله عبدًا حجَّته قال: يا ربِّ! رجوتُك وفَرِقْتُ مِن النَّاس)) [1347] رواه ابن ماجه (4017)، والحميدي في ((مسنده)) (756). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/155): إسناده لا بأس به. وصحَّحه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3260)، وحسَّنه الوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (403). .
- فعل أمر نهى عنه الشَّارع:
فمَن دفعه حياؤه إلى فعل أمرٍ نهى عنه الشَّارع، أو إلى ترك واجب مرغوب في الدِّين فليس حييًّا شرعًا، وإنَّما هذا يعتبر ضعفًا ومهانة.
فليس مِن الحَيَاء أن يترك الصَّلاة الواجبة بسبب ضيوفٍ عنده حتى تفوته الصَّلاة. وليس مِن الحَيَاء أن يمتنع الشَّخص مِن المطالبة بالحقوق التي كفلها له الشَّرع [1348] ((الأخلاق الإسلاميَّة)) لحسن السعيد (ص 155). .

صور الحَيَاء كما ذكرها ابن القيِّم:
ذكر ابن القيِّم صورًا للحياء وقسَّمها إلى عشرة أوجه وهي:
(حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حِشْمَة، وحياء استصغارٍ للنَّفس واحتقارٍ لها، وحياء محبَّة، وحياء عبوديَّة، وحياء شرف وعزَّة، وحياء المستحيي مِن نفسه.
فأمَّا حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السَّلام لما فرَّ هاربًا في الجنَّة، قال الله تعالى: أفرارًا منِّي يا آدم؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياءً منك.
وحياء التَّقصير: كحياء الملائكة الذين يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك.
وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه، يكون حياؤه منه.
وحياء الكَرَم: كحياء النَّبيِّ مِن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.
وحياء الحِشْمَة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن يسأل رسول الله عن المذْي لمكان ابنته منه.
وحياء الاستحقار واستصغار النَّفس: كحياء العبد مِن رَبِّه عزَّ و جلَّ حين يسأله حوائجه، احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها...
وقد يكون لهذا النَّوع سببان:
أحدهما: استحقار السَّائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
والثَّاني: استعظام مسؤوله.
وأمَّا حياء المحبَّة: فهو حياء المحبِّ مِن محبوبه، حتى إنَّه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحَيَاء مِن قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدرى ما سببه، وكذلك يعرض للمحبِّ عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدةٌ، ومنه قولهم: جمال رائع، وسبب هذا الحَيَاء والرَّوعة، ممَّا لا يعرفه أكثر النَّاس.
ولا ريب أنَّ للمحبَّة سلطانًا قاهرًا للقلب، أعظم مِن سلطان مَن يقهر البدن، فأين مَن يقهر قلبك وروحك إلى مَن يقهر بدنك؟ ولذلك تعجَّبت الملوك والجبابرة مِن قهرهم للخَلْق، وقهر المحبوب لهم وذلهم له، فإذا فاجأ المحبوب مُحِبَّه ورآه بغتةً: أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعةٌ وخوف...
وأمَّا الحَيَاء الذي يعتريه منه -وإن كان قادرًا عليه كأمته وزوجته- فسببه والله أعلم أنَّ هذا السُّلطان لـمَّا زال خوفه عن القلب، بقيت هيبته واحتشامه، فتولَّد منها الحَيَاء، وأمَّا حصول ذلك له في غيبة المحبوب فظاهرٌ لاستيلائه على قلبه، فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنَّه معه.
وأمَّا حياء العبوديَّة: فهو حياء ممتزجٌ مِن محبَّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده، وأنَّ قدره أعلى وأجلُّ منها، فعبوديتَّه له توجب استحياءه منه لا محالة.
 وأما حياء الشَّرف والعزَّة، فحياء النَّفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها مِن بذلٍ أو عطاءٍ وإحسانٍ، فإنَّه يستحيي -مع بذله- حياء شرف نفسٍ وعزَّةٍ، وهذا له سببان: أحدهما: هذا. والثَّاني: استحياؤه مِن الآخذ حتى كأنَّه هو الآخذ السَّائل، حتى إنَّ بعض أهل الكَرَم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءً منه، وهذا يدخل في حياء التَّلوُّم؛ لأنَّه يستحيي مِن خَجْلَة الآخذ.
وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيى مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر) [1349] ((مدارج السَّالكين)) لابن القيِّم، بتصرُّف (2/250-252). .





قال الشَّاعر:
إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي
ولم تستحِ فاصنعْ ما تشاءُ
فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ
ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ
ويبقَى العودُ ما بقي اللِّحاءُ

وقال أميَّة بن أبي الصَّلت يمدح ابن جُدْعَان بالحَيَاء:
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني
حياؤُك؟ إنَّ شيمتَك الحَيَاءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يومًا
كفاهُ من تعرُّضِك الثَّناءُ

وقال آخر:
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ
فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ
حياءَك فاحفظْه عليك فإنَّما
يدلُّ على فضلِ الكريمِ حياؤهُ

وقال آخر:
كريمٌ يغضُّ الطَّرفَ فضلَ حيائِه
ويدنو وأطرافُ الرِّماحِ دواني
وكالسَّيفِ إن لاينته لَانَ متنُه
وحدَّاهُ إن خاشنته خَشِنانِ

وقال العرجي:
إذا حُرِم المرءُ الحَيَاءَ فإنَّه
بكلِّ قبيحٍ كان منه جديرُ
له قِحةٌ في كلِّ شيءٍ، وسرُّه
مباحٌ، وخدناه خنًا وغرورُ
يرى الشَّتم مدحًا والدَّناءة رفعةً
وللسَّمع منه في العظات نفورُ
ووجهُ الحَيَاء مُلبَّسٌ جلدَ رِقَّةٍ
بغيضٌ إليه ما يشينُ كثيرُ
له رغبةٌ في أمرِه وتجرُّدٌ
حليمٌ لدى جهلِ الجهولِ وقورُ
فرجِّ الفتى مادام يحيا فإنَّه
إلى خيرِ حالاتِ المنيبِ يصيرُ

وقال آخر:
ما إن دعاني الهوى لفاحشةٍ
إلَّا نهاني الحَيَاءُ والكَرَمُ
فلا إلى فاحشٍ مددتُ يدي
ولا مَشَتْ بي لريبةٍ قدمُ





المشاركات الشائعة من هذه المدونة

:: رسالة الكفر بالطاغوت :: للشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تأمل رحمك الله وجعلك الله من أهل التوحيد الخلص

ثمار التوحيد في ضوء الكتاب والسنة

اقوال وحكم...