بعض الناس يقول حذرنا الله -عز وجل- مِن بعض الظن , فكيف بالظن كلِّه . وجواب فضيلة الشيخ عبيدالجابري
بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
هذه الآية من سورة الحجرات، أو الجملة التي ذكرتها هي ضمن آية من سورة الحجرات، ونص الآية هكذا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(12الحجرات).
الناظر في هذه الآية يجدها صريحة في خطاب الله-سبحانه وتعالى-أهل الإيمان، وقد تضمنت أوامر ونواهي، وإن كانت الآية قد خوطب بها خير الناس، بعد محمد-صلى الله عليه وسلم-وهم الصحابة-رضي الله عنهم-، إلا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص اللفظ.
فداخل تحت هذا الخطاب كل مؤمن ومؤمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وما أحسن ما قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: (إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا فأصغي لها سمعك، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه).
فأول ما تضمنت هذه الآية من أوامر الحق-جل وعلا-هو: اجتناب الظن.
والظن: هو ما لم يقم عليه دليل صريح، يُجَلِّي حقيقته ويكشف أمره، وإنما هو مجرد توقع شيء.
ومن هنا لك أن تقول: إن ما يبلغ من أمور الناس على ضربين:
أحدهما: ما قام الدليل عليه صحة أو فسادًا، فهذا يحكم عليه صحة أو فسادًا، هذا يحكم عليه بناءً على ما قام به الدليل، فالصحيح يقال به صحيح، والفاسد يقال فيه فاسد، بمقتضى الدليل الشرعي الذي قام عليه.
والقسم الثاني: ما لم يقم عليه دليل على انه صحيح أو فاسد، فهذا لا يحكم عليه بمجرد الظن وإنما يتوقف الأمر عليه حتى يتيقن منه ، هذا هو الذي نهى الله-سبحانه وتعالى-عن حكمه، أو نهى-سبحانه وتعالى عنه، أو نهى عن الحكم عليه وأمر باجتنابه، (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).
هذا يدل على أن الظن أيضا قسمان: ظنٌ غالب وظنٌ غير غالب.
فالظن الغالب: هذا يحكم عليه صحته وفساده.
وغير الغالب: هذا لا يتتبع، هذا هو ما يشير إليه-جل وعلا-فيما يظهر لي من لفظ الآية(اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل اجتنبوا الظن كله.
وقال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)وهناك ظنٌ غالب يسوغ الحكم وهذا عند أهل العلم يكفي بالحكم على الشيء، أو بالحكم على القول أو الفعل.
وبهذا يفسرون قوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)،
قال أهل العلم: (ظننتموهن)يعني في غالب ظنكم أنهن مؤمنات، وهذه في سورة الممتحنة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ).
قال: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ)، قال أهل العلم: يعني في ظاهر الحال، لأنه لا يمكن العلم بحال هذه علمًا يقينيًا، وإنما فيما يظهر من حالها، ولهذا قالوا: إنها تحلى إنها هاجرت إلى الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم-، وفارَّةً بدينها من الكفار، نعم إلى غير ذلك ما ذكره أهل العلم.
فالواجب على من يفسر القرآن أن يطلب دليله من القرآن نفسه، فإن لم يجد دليله في القرآن طلبه من السنة، فإن السنة هي وحي من الله إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال-عليه الصلاة والسلام-: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وفي التنزيل الكريم(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4))، وقال-جل وعلا-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
فإن لم يجد تفسير القرآن في هذين نظر في أقوال الصحابة فإنهم أعلم الناس بهدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وأعلم الناس بما بلغه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن ربه للأمة، لأنهم وحدهم هم الذين شاهدوا التنزيل، وتحملوا شرع الله الذي أنزله على نبيه محمد-صلى الله عليه وسلم-عن محمد-صلى الله عليه وسلم- وبلغوه بعد ذلك إلى الأمة-رضي الله عنهم-، فلم يزيدوا عليه ولم ينقصوا عنه.
فإن لم يجدوا في هذه الثلاثة نظر في اللغة العربية فإن القرآن نزل بها ومن ذلك أن ينظر في سياق الكلام من حيث السباق واللحاق، فكثير ما يكون أول الآية يفسرها آخرها وقد يكون أول الآية يفسر آخرها، هذا هو الذي يجب أن يسلك في تفسير كتاب الله-سبحانه وتعالى-ولا يستعمل به القياس ولا التخمين ولا الحدس ولا الظن، وإنما يجب على المرء أن يسلك هذه المسالك الأربعة.
وهناك ما يسمَّى تفسير بالرأي وهو: أن العالم الراسخ بالعلم إذا أعوزه الدليل اجتهد رأيه بالقضية، في قضية بعينها، فإن وافق قوله أو حكمه الكتاب والسنة فهو المعتبر، وإن خالف كان هذا الرأي غير معتبر وهو مأجور على اجتهاده إن شاء الله تعالى.
ومما تضمنته الآية(وَلَا تَجَسَّسُوا)وهو التتبع والتنبيش عن ما خفي، هذا هو عين العورة.
وبهذا تعلمون أن أحوال الناس تنقسم إلى قسمين:
قسم ظاهر: فهذا هو الذي يحكم عليه ولا يسمَّى النظر فيه تتبعًا للعورة أبدًا.
وقسم خاص: وهذا أهل السنة بعيدون عن تتبعه والتنبيش عنه كل البعد كيف لا وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإِنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع اللّه عورته يفضحه في بيته) الحديث كما قال-صلى الله عليه وسلم-.
أهل السنة لا يتجسسون أبدًا، وإنما هذه تهمة ألصقها بها بعض من ينحى منحى المبتدعة، ويستعمل قاعدة(المعذرة والتعاون نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه)وقصد هؤلاء أنه لا يرد أحد على أحد، وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم والدين والإيمان، فإنهم يردون ما خالف الكتاب والسنة على صاحبه كائنًا من كان، حتى وإن كان المخالف صاحب سنة، لكن صاحب السنة له عندهم كرامة وصيانة عرض وحفظ مكانة ومراعاة سابقة فضله وجلالة قدره.
وهذا لا يجعلهم يتعاطفون معه ويغضون الطرف عن ما بان من خطئه وزلَلِه، بل يردونه ردًا علميًا يقوم على الدليل من الكتاب والسنة وعلى فهم السلف الصالح.
أما المبتدع فإنه لا كرامة له عندهم، بل يشنعون عليه ويحذرون منه ويجلبون عليه بكل خيل ورجل، إلا إذا ترتبت مفسدة على التحذير منه والتشنيع عليه، فإنهم يسلكون جانب المداراة ويكتفون بالتحذير من القول فقط أو يردون القول أو الفعل بأنه خاطئ ويقيمون الدليل من الكتاب والسنة.
والآية الكلام فيها يعني يحتاج إلى وقت طويل، وليس عندنا من الوقت ما يكفي في تفسير هذه الآية أو استنباط الأحكام التي تضمنتها الآية.
قام بتفريغه: أبو عبيدة منجد بن فضل الحداد
الخميس الموافق: 6/ جمادى الآخر/ 1431 للهجرة النبوية الشريفة.