إن الدنيا ليست بدار قراركم
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب الله على أهلها منها الظعن ، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنا ، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة ، همه التزود للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة ، بل هو ليله ونهاره ، يسير إلى بلد الإقامة ، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين . فأحدهما : أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة ، لكن في بلد غربة ، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة ، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيل بن عياض : المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمة جهازه . ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى [ ص: 379 ] وطنه ، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ، ولا يجزع من الذل عندهم ، قال الحسن : المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن ، وللناس شأن . لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها ، وصالح ذريتهما ، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، كما قيل :
كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل