"خلقٌ فقدناه .. الفروسية " ..الحلقة الأولى
"خلقٌ فقدناه ..
الفروسية "
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد إن لا إلا الله وحده لاشريك له وأشهدوا أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد:
فيقول أبومعاذ السلفي العلواني العراقي – كان الله له – :
أرسل لي شيخنا أبو عبد الله يحيى الجبوري العراقي – فرج الله سجنه , ويسر أمره – هذه المقالات من سجنه,فآثرتُ نشرها ليعم الإنتفاع بها .. والله المستعان.
.. خلقٌ فقدناه"
الفروسية "
الحلقة الأولى/ المقدمات
((فإن الفتنَ في هذا الزمان تتابعت وتنوعت وتكاثرت,؛فمنها الفاتن للجوارح؛ ومنها الفاتن للقلوب ؛ ومنها الفتَّان للعقول والفهوم ؛ وقد خاض أناسٌ في الفتن غير مبالين ؛ وخاض أناس غير عالمين , وخاض أناسٌ عالمين !!؛ وخاضت جماعاتٌ مقلّدين , حتى أصبح ذو القلب الحيّ ينكر مَن يراه؛ ومايراه!!؛فلا الوجوه بالوجوه التي يعرف ؛ولا الأعمال بالأعمال التي يعهد , ولا العقول بالعقول المستنيرة, ولا الفهوم بالفهوم المنيرة!!؛فهو مخالطٌ للناس بجسمِه ؛ مزايلٌ لهم بعقله , يعيش في غربتِه بين بني جلدته ,حتى يأذن اللهُ بحلول الأجل ,فيلتحق –إن عفا اللهُ وغفر – بمن يفكّ غربتَهَ, ويؤنس وحشته؛ وهولاء هم طائفة النبي [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ],وهم الذين على هديه سائرون,لا يخدعُهم تسيُّدٌ ولاتؤثر فيهم شبهة ,فهم الغرباءُ في بلادِهم ,يدلّون الناسُ على السنة,ويهدونهم إلى التوحيد,ويعلّقون القلوبَ بخالقهِم وحده لابأحدٍ من الخَلق؛ فلا يحبّون إلاّلله , ولايبغضون إلاّلله,ولايعبدون إلاّ إياه, همّهم دعوة الناس الى التوحيد,يسمون أنفسَهم أتباع السلف الصالح –وأكرم به مِن إتباع -؛ فهم أتباع السلفية الخالصة)) ".(1)
وهذه الغربة التي اشتدت في هذه الأوقات؛ وأفرزت نكوصَ وانقلاب كثير من الناس عن ديِنهم ؛وارتدادَهم عن منهجِهم؛ووقوعهم إما في مخالبِ التكفير الجائر,أو في براثن التمييع الحائر,أدى ذلك كلُّه إلى تأملّي وتفكيري خلال أشهر السجن الطويلة – أسأل الله أن يمنَّ بانقضائِها سريعاً – بأبرز معالِمها, وأجلى مظاهرها, وأعظم أسبابِها هي :
1- التقصير في تحقيق التوحيد,وضعف العقيدة في النفوس , لاتعلماً , ولاعملاً , ولادعوةً , ولاصبراً ؛الأمر الذي يدفع كلَّ غيورٍ على دينهِ أن يتقطّعَ ألماً على هذه الحال ؛فأي إصلاحٍ أو فلاحٍ أو نجاحٍ نرجوه مع هذا التقصير والتفريط ؟! وإذا كان معالي وزير الأوقاف في بلاد التوحيد- حرسها الله- يتأسف قائلاً:(( هذا الزمان ... لانرى قائماً بدعوةِ التوحيد إلاّ ما شاء الله جل وعلا ))(2) . فكيف في غيرها ؟!!.
2- الوقوع فيما استعاذ منه رسولُ الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مراراً وتكراراً؛ فقد روى البخاري عن عبدالملك بن عُمير: عن عمرو بن ميمون الأودي قال ((كانُ سعد يعلّمُ بنيه هولاء الكلمات كما يعلّم المعلمُ الغلمان الكتابة , ويقول " إنَّ رسولَ الله [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] كان يتعوَّذ منهن دبر الصلاة : اللهم إني أعوذ بـك من الجبن ,وأعوذُ بـك أن أُردَّ إلى أرذلِ العمر , وأعوذ بـك من فتنة الدنيا , وأعوذ بـك من عذاب القبر,فحدّثتُ به مصعباً فصدّقه )).
قال الإمام ابن حجر " في فتح الباري ":(سعد):وهوأبن أبي وقاص ,( فحدثُ به): قائلُ ذلك هو عبد الملك بن عمير, (مصعباً ) : هو ابن سعد بن أبي وقاص.
فضعفت الشجاعة في النفوس , واستشرى الجبن فيها الجبن الذي ((هو خورٌ في النفس, يمنع المرءَ من الإقدام على مايكره ؛ فهو خلقٌ نفسي ذميم لمْـا يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه؛ فلهذا كان صفة ذميمة منطبقة على المنافقين)) (3) ", فالنفاق والجبن قرينان ,كما أن التوحيدَ والشجاعة تؤامان , و((المنافقون من أجبن الناس , قال تعالى: ((يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)) [ المنافقون :4 ]" إذ أنَّ أصلَ نفاقهم من أجل الدنيا , ومن أجل أن تُحمى دماؤهم , وأموالُهم,وإعراضُهم)) (4) " فـ(( المنافقون هم الجبناء)) (5) ", فـ(( عليك أن تعلمَ أن الإقدامُ على كلمةِ الحقّ ليس هو الذي يدني الأجل , وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل)) (6) ".
والجبن والنفاق هما اللذان أديّضا إلى ضعف الرجولة في النفوس ؛فلا ترى رجلاً بحقّ إلاّ مَن رحم الله..نعم , مظاهر الذكورة بادية من غلظ الشوارب !, وخشبية الأجساد! ؛ فإذا حقّت المحقوقية فإنك لا تجد إلاّ صفات وأخلاق النساء والصبيان !!؛ فهم ذكور الظاهر ؛ إناث وصبيان الباطن .
3- فأثمر الجبن والنفاق والتخنّث والتصابي فشو مرض الحسد على ما أنعم اللهُ به على محسوديهم ديناً ودنيا !!, فأصبح الحسدُ مرضاً لصيقاً بالنفوس , فقلَّ ما تجد اليوم أحدٍ معترفاً بفضل أخيه ,ساعياً للإنتفاع بما فضلّه الله ُ به عليه , رغم إقراره في داخلة نفسه بهذا التفضيل إما بالعلم النافع أو بالعمل الصالح, فلا رضي بإقدار اللهِ ومشيِئتهِ , ولاتخلَّق بخلق الغبطة التي أجيزت شرعاً.
قال الإمام علاّمة اليمن المحدَّث الشيخ مقبل بن هادي الوادعي: (( ماذا تنِقمون من أهل السنّة ؟ أنهم يؤمنون بالله, ويتعلموّن أمور دينهم؛ ويدعون إلى الله على بصيرة؟!.. خبتم وخسِرتم وشاهت وجوهكم , مازال بكم الحسد لأهل السنة حتى افتضح أمرُكم , أتدرون من سلفكم في الحسد ؟ إنه إبليس الذي قال عندما أمِر بالسجود :(( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)). الاعراف :[152] .(7).
4- وحَسَدُهم للموحدين السلفيين الصادقين أدى إلى كسر الحواجز بينهم وبين أهل البدع والإهواء, وأهلِ النفاق والريب ,فأُعيدت العلاقات , ورُفعت الموانع حرصاً على مصالح الدنيا وجاهِها وأموالِها ومناصبِها وزخرفهِا ,فأصبح المنادي بهجر ومباينة أهل البدع والأهواء غريباً, يطير خارج السرب , ويخالف وحدة الصف !!, وكأنه لم ينزل قولُه تعالى:
((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) [المدثر : 5] في أوائل مانزل على رسولِ الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -!! وكأن تفسير هذه الأية ليس قول الأئمة – رحمهم الله - :(( الرجز : الأصنام , وهجرها : تركها وأهلها , والبراءة منها , ومن أهله)) "(8).
((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) [المدثر : 5] في أوائل مانزل على رسولِ الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -!! وكأن تفسير هذه الأية ليس قول الأئمة – رحمهم الله - :(( الرجز : الأصنام , وهجرها : تركها وأهلها , والبراءة منها , ومن أهله)) "(8).
5- وغلب حبّ الدنيا على النفوس , فصارت الدنيا هي الههم الذي تتوجّه إليه العزائم !!, وهي الرحم الذي يجمع بين هذه الأشتات, وعليها يعقد الولاء والبراء,فَصيغت العلاقات على أساس المنافع والمصالح لا على أساس المبدأ والعقيدة , فبمقدار ماينتفع أحدهم دنيوياً منك فأنت الحبيب القريب !, وبمقدار حرصك عليه ,وأمرك له بالمعروف ونهيك له عن المنكر فأنت البغيض البعيد !. ((ويروى عن مجاهد قال :((قال لي عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: أحب في الله ؛ وأبغض في الله ؛ووالِ في الله ؛وعادِ في الله؛ ولا يجد رجل طعم الإيمان – وإن كثرت صلاته وصيامه – حتى يكونَ كذلك؛ وصارت مؤاخاة الناس في أمر الدنيا؛وإن ذلك لايجزي عن أهله شيئاً.)) رواه الطبراني في " المعجم الكبير"؛ وفيه رجل ضعيف؛(( فيظهر لك فهم الصحابةِ للواقع أنَّ عامةَ المّؤاخات على أمر الدنيا)), (9).
وإذا كان هذا في زمنِه ؛فكيف في زمننا)) (10) ؟!.))
6- فهي نفوس ترعرعت فيها خصال الجاهلية ومسائلُها,وإن كانت ظواهرها إسلامية !! لكن ما إن تمدَّ أصابعَك في دواخلِها حتى تجدَ بللَ العفن !!؛ فأين تحكيمهم لشرع اللهِ على أنفسِهم , أو الوَالدَين , أو الأقربين ؟.-.إلأ من رحِم الله- .. وتأمـل في نفوسِهم وأخلاقهم عندما تُنكر عليهم خطأ ً,أو عند مشاجرة , أو قضية ؛فترى نتنَ الجاهلية , وأعرابيِتها ,ونُظمَِها , وقوانيِنها ؛فأين((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النساء : 65 ]؟!.
7- وكانت هذه المظاهر أظهر ماتكون عند بعض من ينتسبون إلى الدعوة والعلم !! ولُقَّبوا من أشباههِم العوام,أو لقَّبوا أنفسَهم بألقاب : الدعاة !, وطلبة العلم !؛ والمشايخ ..بل والعلماء ؛فهم الطبقة التي نبَّـه ,وحذر منها رسولُ الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بقوله :(( أكثرُ منافقي أمتي قراؤها )) [ " صحيح الجامع "]؛فزال العجب, فبعد أن رفعَ اللهُ شيئاً من قدرِهم ببعض العلم النافع , والعمل الصالح ؛تغيرت نياتُهم, وكفروا هذه النعمة , وركنوا إلى رياستِهم , فأصبحوا مجاهدين مقاتلين , لا في سبيل الإصلاح المأمورين به شرعاً((إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)) [ هود :88 ] , لكن كان جهادهم وقتالهم في سبيل مكانتهم ورياستهم ؛ فالويل كل الويل لمن اقترب منها ناصحاً مصلحاً مصحّحاً !!, فأصبح بقاؤهم في هذه الرياسة , واستمرارهم في هذه المكانة -رياءً , ومداهنةً - هما مقياس النجاح والفلاح , وهما الميزان الذي يزنون به الناسَ والحقَّ من حولِهم !!.
8- وختاماً.. فأينما تكون , وحيثما حللتَ , ومهما شرَّقت وغرَّبت الدنيا من حولِك .. فكن كما قال ذلك الإمام السلفي الصالح أبو سليمان الداراني :(( إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت للّه عليَّ فيه نعـمة ولي فيه عبرة (11)، فتذكَّر دائماً أن لله حقاً عليك ؛وأن للدين الذي هداك الله إليه حقاً عليك ؛ وأن للمجتمع الذي قدَّر اللهُ وجودك فيه حقاً عليك ؛ فلتكن كما قال الإمام المجدّد المصلح محمد بن عبد الوهاب مفسّراً قوله تعالى: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [ يـوسف :39] (( دعوتُه إياهما – عليه السلام – إلى التوحيد في تلـك الحالة ؛ فلم تشغله [ حالُه وهو مسجون ] عن النصيحة والدعوةِ إلى الله )).(12).
إنتهت الحلقة الأولى من " خلقٌ فقدناه .. الفروسية "
وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)"هذه مفاهيمنا ",العلامة صالح آل الشيخ (ص 5-9)بشيءٍ من التصرف والإختصار
(2)[ الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن"(7-8)
(3)"القول المفيد ",الإمام ابن عثيمين.
(4) المصدر نفسه
(5)"حاشية كتاب التوحيد ",العلاّمة ابن قاسم.
(6) " القول المفيد " الإمام ابن عثيمين
(7)" المخرج من الفتنة " (ص 185) بأختصار.
(8)" ثلاثة الأصول وأدلتها ", الإمام محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله ".
(9)" كتاب التوحيد " الإمام محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله ".
(10)" القول المفيد " الإمام أبن عثيمين " رحمه الله ".
(11)" رواه ابن أبي الدنيا في كتاب" التفكر والإعتبار"
(12)" تفسير آيات من القرآن الكريم ", الإمام محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله ". (ص 146)
وكتب
أبوعبد الله
يحيى الجبوري
ربيع الأول /1432 هـ